تفاجئت الكثير من الأوساط الثقافية والسياسية في سوريا، وربما في المنطقة العربية أيضاً بصدور كتاب مهم للسيد (عبد الحليم خدام) نائب رئيس الجمهورية السورية، باسم(النظام العربي المعاصر: قراءة الواقع واستشفاف المستقبل)، وقد نشرت جريدة الحياة اللندنية أجزاء منه، وكذلك عبر الانترنيت على موقع(إيلاف). حمل الكتاب أفكار ورؤية سياسية جديدة للواقع العربي ومستقبل المنطقة، لا يمكن فصلها عن التحولات الفكرية الكبيرة والتبدلات السياسية العميقة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة والتي أصابت الجميع شرقاً وغرباً دولاً ومؤسسات أفراداً ومجموعات .
وتأتي أهمية هذا الكتاب أولاً: من أهمية الكاتب ذاته ومكانته السياسية وموقعه القيادي في السلطة والحزب (حزب البعث العربي الاشتراكي) ومواكبته لمسيرة الحياة السياسية والفكرية للحزب منذ توليه السلطة في سوريا عام 1963. ثانيا: لما تتضمنه الكتاب من قراءة نقدية للفكر السياسي العربي وللإيديولوجية القومية للأحزاب والحركات القومية العربية خلال الحقبة الماضية، وقد حملها جميعاً السيد (عبد الحليم خدام) مسئولية تجاهل وتأزم وضع الأقليات في الدول العربية.
سنتوقف في هذا المقال عند إحدى القضايا الأساسية التي أشار إليها الكاتب، وهي مسألة (حقوق الأقليات القومية والإثنية) في الدول العربية، لتقديرنا التام لحجم المخاطر التي تهدد الجميع، إذا لم يتم إيجاد حلولاً جذرية حقيقية لها توفر على شعوب هذه المنطقة الكثير من الصراعات العرقية والحروب القومية المدمرة. وهذا ما أشار إليه السيد( عبد الحليم خدام) في كتابه إذ .يقول:(( من الثغرات الهامة في مبادئ ومناهج الأحزاب والتشكيلات القومية العربية التي تأسست في الثلاثينات من القرن الماضي هي أنها لم تدرس الواقع الإثني في الوطن العربي الذي يتميز بوجود أقليات قومية لا تتكلم العربية شريكة العرب في تاريخهم وثقافتهم وحضارتهم وقيمهم سواء في مغرب الوطن العرب أو مشرقه)). ويضيف السيد (خدام) قائلاً :((استمرت التنظيمات العربية الأخرى بعد عقد الأربعينات في تجاهل هذا الوضع. أن الوعي القومي العربي لا ينبغي أن يتناقض مع وجود أقليات قومية أو ثقافية أخرى في الوطن العربي ومن ثم لا يعيق إمكانية تعميق رابطة المواطنة المرتكزة على الانتماء للوطن وعلى التاريخ والثقافة المشتركة في كثير من جوانبها، وإذا لم نفعل ذلك نكون من حيث لا نريد قد ساعدنا على تمزيق وحدة الأمة بعربها وبأقلياتها القومية والثقافية الأخرى)).
نعم وبدون شك أن (قضية الأقليات) في الدول العربية، كغيرها من المشاكل والقضايا الداخلية وقعت ضحية الحلول الأيديولوجية التعسفية للأحزاب والحكومات القومية العربية على اختلاف اتجاهاتها السياسية. فقد تبنت هذه الحكومات خيار (الاندماج القسري والإيديولوجي) للأقليات في المجتمعات العربية كحل وحيد للمشكلة وأتبعت سياسة التعريب والتغير الديمغرافي لمناطق الأقليات كما حصل لكثير من (المناطق الآشورية)، خاصة في الشمال العراقي. وبالرغم من التوجهات التحديثية للأحزاب والحركات القومية العربية، بقيت تحت تأثير (الأيديولوجية الإسلامية) التقليدية التي عملت على (أسلمة المجتمع) وأخضعت كافة الأقليات والجماعات العرقية والدينية لتدرج مراتبي وفق معايير ومقاييس إسلامية خاصة. بمعنى أخر أن اللامساواة (التيوقراطية) الدينية التي ظهرت في المجتمع العربي الإسلامي التقليدي، تركت تأثيرها على أيديولوجية وفكر منظري القومية العربية وأنتجت اللامساواة( القومية) وبالتالي اللامساواة في (حقوق المواطنة) بين جميع القوميات والأثنيات داخل الدولة الواحدة، فقد ميز الفكر القومي العربي (العنصر العربي) عن باقي الشعوب والأقوام الأخرى وفضله عليها، وأطلق تعابير تقلل وتنتقص من شأن الأقوام والأديان الأخرى مثل عبارة شهيرة، أطلقها أحد أبرز منظري القومية العربية و مؤسسي حزب (البعث العربي الاشتراكي) السيد (ميشيل عفلق) تقول: “إذا كان محمد عربياً فعلى كل عربي أن يكون محمداً”. هكذا فأن (الأصولية الإسلامية) أنتجت (أصولية قومية عربية) في الفكر والممارسة، وبقي الانتماء إلى الأقليات مصدر تهمة وإدانة وشك في وطنية أبنائها في معظم& الدول العربية.
هذا وقد أخطأت معظم الحركات والأحزاب القومية العربية بمختلف تياراتها الفكرية، في نظرتها لمفهوم (الوطنية) و(للقومية العربية)، إذ تعاملت مع القومية العربية باعتبارها واقعاً بديهياً، وتعاملت مع مفهوم الوطنية كشيء مثالي منجز قائم بدلاً من أن تدعوا إليه و العمل من أجله. لهذا أعتقد بأن مسألة (الهوية الوطنية) لمعظم دول العربية لم تحسم بعد، كذلك لم يتفق العرب جميعاً على تعريف محدد ثابت (للقومية العربية)، إذ يوجد العديد من الدول العربية التي تطلق على نفسها مصطلح(الأمة) فنسمع بـ(الأمة الكويتية) و(الأمة الجزائرية) و(الأمة التونسية)، وتحاول (ليبيا) التخلي عن الانتماء للعروبة. وهناك في الأوساط الثقافية المستقلة من يدعو للقومية(السورية)، وللقومية(اللبنانية)، كذلك من يدعو للقومية المصرية(الفرعونية القديمة) وأيضاً من يدعو للقومية العراقية(الآشورية/البابلية). ونجد بين العرب من يقول: ليس هناك شعب عربي واحد في وطن عربي واحد، وإنما شعوب عربية، في عالم عربي متنوع الهويات الثقافية والشخصيات القومية. ثم ألا يعكس تباين موقف الدول العربية من الأزمة العراقية الراهنة، كذلك من القضية الفلسطينية، وغيرها من القضايا العربية المصيرية تبايناً عربياً، رسمياً وشعبياً، حول الموقف من مفهوم( القومية العربية).
لا شك أن الصورة المثلى للدولة هي (الدولة القومية)، أي الدولة التي تضم أبناء قومية واحدة، لكن نادراً ما تخلو دول من وجود فيها قوميتان أو أكثر بسبب الأنزياحات السكانية الكبيرة بفعل الحروب الطويلة والعوامل البيئية، مثل القحط والجفاف، وأكثر ما تتميز بهذه الظاهرة دول منطقة الشرق الأوسط التي تضم (بلاد ما بين النهرين) و(بلاد الشام) و (وادي النيل) مركز الحضارات القديمة في الشرق، والتي شهدت حروب و صراعات طويلة وعنيفة بين أقدم وأقوى الإمبراطوريات القديمة والحديثة. في مثل حالة هذه الدول، ذات القوميات والأثنيات المتعددة تفتقر شعوبها إلى وحدة الشعور القومي كرابطة تجمع بينهم، يكون من الضرورة والأهمية أن تركز الدولة جهدها على تقوية وتعميق رابطة الشعور الوطني والولاء السياسي لتقوي وتعزز (الرابطة الوطنية) وتوحد أبنائها وهذا لا يتحقق إلا من خلال تبني هوية وطنية توفيقية تحظى برضا الجميع، وتسمو على جميع ألهويات القومية والثقافية والإثنية الخاصة بما فيها هوية الأغلبية، كما هو حال الكثير من الدول الأوربية الحديثة التي تخلت عن التسميات العرقية القديمة كمحدد لهويتها الوطنية والقومية و فصلت الدين عن الدولة وتبنت أكثر من لغة رسمية وطنية لها.أن تطابق هوية الدولة أو دينها رسمياً مع هوية وديانة جماعة قومية أثنية عرقية دون غيرها حتى لو كانت هي الأغلبية، كما هو حاصل في معظم الدول العربية التي جعلت من قومية ودين الأغلبية ( العروبة والإسلام) هما الهوية الوطنية والدين الرسمي للدولة ومصدر أساسي للتشريع، مما جعل الأغلبية تشعر بشيء من الاستعلاء القومي والديني والتظاهر بالتفوق على الآخرين، وخلق حالة من الاغتراب والاستلاب الوطني وعدم الراحة والاطمئنان عند الأقليات، خاصة الغير إسلامية، وفي هذه الحالة تفقد هوية الدولة وظيفتها الأساسية والجوهرية والتي تتمثل في خلق رابطة سياسية اجتماعية ثقافية وطنية بين جميع قوميات وأثنيات وديانات المجتمع الواحد. فعندما تتبنى الدولة هوية قومية وديانة معينة ينطوي ضمناً على استبعاد هوية الآخرين من الأقليات و تهميشها و يسبب إنقاصاً من المكانة القانونية والوطنية لها وخلق معايير وتراتبية بين المواطنين و تصنيفهم في درجات، مما يسبب لهم نوع من الغبن وشعور بالظلم وسيجدون صعوبة وعقبات كبيرة في طريق اندماجهم الوطني.
إذاً ثمة خلل عميق ونقص كبير في العلاقة بين الشعوب العربية الإسلامية وشعوب الأقليات المتواجدة بينها، وأكثر من يتحمل مسؤولية هذا الخلل في العلاقة هي الحكومات والأنظمة السياسية العربية بأحزابها، التي ترفض دراسة وضع الأقليات وإيجاد حلاً مقبولاً لها، وإتباعها سياسة النعامة، في حل مشاكلها الداخلية. فمازالت الدول العربية تبذل الكثير من الجهد السياسي والثقافي على حساب الكثير من القضايا المهمة من أجل تكريس ثقافة وهوية الأغلبية العربية لتصبح هي وحدها هوية الدولة، وبالمقابل تبذل الأقليات جهود مضاعفة محاولة منها لإبراز هويتها القومية وخصوصيتها الثقافية لتحفظها من الانصهار والضياع ضمن هوية وثقافة الأغلبية.
أخيراً:
أن ما حمله كتاب السيد (عبد الحليم خدام) من اعترافات بأخطاء تاريخية ارتكبت بحق الأقليات في الدول العربية، جاءت متأخرة جدا، لكنها تبقى خطوة متقدمة ومتميز ومشكوراً عليها السيد (خدام) ونقول: ((أن تتقدم ولو ببطء خير لك من أن تبقى واقفاً)). فهذه الاعترافات هي مهمة بقدر ما هي ضرورية، وفي هذه المرحلة تحديداً، من رجل سياسي بارز وعضو قيادي قديم في (حزب البعث العربي الاشتراكي) الذي يحكم سوريا منذ أربعة عقود، خاصة وأن هذه الاعترافات تنطوي على الإقرار الرسمي والصريح بفشل خيار(الاندماج ألقسري) كحل لمشكلة الأقليات القومية الذي تنتهجه معظم الدول العربية.
ويبقى السؤال الأهم الذي أثير في الأوساط السياسية والثقافية في سوريا، خاصة بين أبناء القوميتين (الآشورية والكردية) بعد نشر هذا الكتاب: ماذا يترتب على كلام واعترافات رجل بموقع وحجم السيد (عبد الحليم خدام) يشغل منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، ومهندس السياسة السورية لسنوات طويلة، من إجراءات وخطوات عملية ترفع الغبن والحرمان الذي لحق بالأقليات، على الأقل في سوريا، جراء الأخطاء والممارسات الخاطئة بحقهم. يقول المثل الصيني: ((اجتياز مسافة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة)).
نأمل أن تكون هذه الاعترافات الخطوة الأولى بالاتجاه الصحيح، ومقدمة لتصحيح الموقف وأن تفتح باب الحوار الوطني الديمقراطي بين الحكم ومختلف القوى الوطنية والحركات القومية، منها (الحركة الآشورية)، لدراسة وضع وحقوق القوميات الغير عربية في سوريا وغيرها الكثير من القضايا والمسائل الوطنية لما فيه خير الوطن والمواطن.
لا شك يوجد من يعمل ويدعو لسوريا أن تكون وتبقى دولة لقومية واحدة وبلغة واحدة وثقافة واحدة ويحكمها حزب واحد بفكر واحد ، لكن مثل هذه الدعوات تنطلق من نزعات قومية عرقية تعصبية ونظرة حزبية ضيقة، تطلقها بعض الأحزاب والتنظيمات العربية، في عصر تغيرت فيه الكثير من المفاهيم والأفكار، ولم يعد ينسجم الإنفراد في الرأي والموقف مع المفاهيم الحديثة للديمقراطية والتعددية والانفتاح الذي يشهده العالم على جميع الثقافات والحضارات، فكيف لنا نحن في سوريا(مهد الحضارات) أن ننغلق على ثقافاتنا وحضاراتنا ولغاتنا الوطنية العريقة والمتنوعة والمتعددة كـ(الثقافة واللغة الآشورية/السريانية) التي تشكل إحدى أهم وأقدم (اللغات السامية) القديمة في العالم، ولغة الأم لسوريا قبل أن تنطق بالعربية. فمن شروط الوطنية الصحيحة والتعايش المشترك بين قوميات وفئات المجتمع الواحد هو الإقرار بالتعددية القومية والسياسية والثقافية على أسس ديمقراطية، والاعتراف المتبادل بين الأقلية والأغلبية، واحترام كل طرف لإرادة ومشاعر الآخر، التعايش القائم على مبدأ الوحدة في التنوع، وعلى مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع قوميات وأبناء الوطن الواحد دون تميز أو تفضيل.