عندما كنت في دمشق قبل شهرين وتحديدا لحضور فعاليات مهرجان دمشق السينمائي كنت اشعر من حديث المثقفين الذين كنت اجتمع معهم في بهو فندق الشام بأنهم يدركون جزءاً من الحقيقة ويستشعرون الواقع الذي سيحدث رغم ان البسطاء لا يريدون ان يصدقوا ان لسوريا دوراً في هذا الاغتيال، فقد شاهدت رجلاً سورياً كبيراً في السن يصعد على سلم متهالك ليعلق لوحة قماش كتب عليها «لا نساوم على دم الحريري وسنكشف كذبة ميليس» وعلقها على واجهة دكانه الصغير..

ومع مرور هذا المشهد في مخيلتي أتخيل مشهد هذا العجوز وهو يشاهد مقابلة خدام على قناة العربية وأحاول ان اكتشف مدى خيبة الأمل والإحباط الذي سيعتريه وكيف سيفكر، اعتقد انه سيفكر في احد أمرين.. الأول: هو ان هناك خيانة كبيرة تجاه سوريا من اقرب المقربين لها وان الأمر مدبر.. والآخر: ان هناك خطأ وقع ولكن يجب ألا تحاسب سوريا على هذا الخطأ لأنه يتمنى ان يبيع بعض الحاجيات على السياح الذين يقصدون سوريا في الإجازات ولا يتمنى ان ينقطع رزقه بسبب الحصار الاقتصادي الذي قد يفرض على سوريا.

لم يكن يوم الجمعة الماضي يوما عاديا لا في حياة السوريين ولا في حياة المشاهدين العرب الذين تسمروا أمام قناة العربية التي قدمت لقاء عبد الحليم خدام.. لقد وضع خدام الشعوب العربية في موقف لا تحسد عليه وهي تلك الشعوب التي كانت تنظر لقضية اغتيال الحريري على أساس أنها مؤامرة صهيونية امريكية لإسقاط سوريا وإجبارها على تنفيذ خطط رسمت منذ سنوات، ولكن السيناريو الذي قدمه خدام عن الواقع السوري وعن خلفيات اغتيال الحريري كان سيناريو يعد الأصعب على الشعب السوري الذي أستطيع ان أتلمس مدى الألم الذي يعتصره جراء هذا الموقف وهو الذي كان يؤمن بأن بلاده طاهرة من دم الحريري وان كل ما كان يفعله ميليس مجرد محاولات لإقناع العالم بأن سوريا متورطة وهي على عكس ذلك..

وكل هذا التغير لم يحدث جراء طول الفترة التي استغرقها ميليس في التحقيق ولم يحدث رغم كل التلميحات التي كانت تظهر عن تورط سوريا في الاغتيال بل ان التغير حدث فيما يقارب ساعة واحدة فقط وهي عندما قدمت قناة العربية لقاء خدام.. وقد كان ما قاله كأنه سحر بالنسبة لكثير من السوريين الذين ليس بالسهولة ان يتهموا خدام بالخيانة والكذب وهو المطلع والعارف ببواطن الأمور في سوريا، عندما كانت وسائل الإعلام تتقاذف أخبار ميليس وتحقيقاته والهالة الإعلامية لهذا الحدث تلاشت وبشكل رهيب مع خروج خدام وانشقاقه عن النظام في سوريا وشجاعته لقول ما قاله في المقابلة رغم ان واقع من يتكلم في سوريا يعرف مصيره، سلاح الإعلام اصبح سلاحا تصعب مقاومته أو الالتفاف حوله فمن خلال هذه المقابلة كم هائل من الأسئلة المعلقة بدون أجوبة تمت الإجابة عليها وكثير من علامات الاستفهام تم إيضاحها بشكل جلي.