”بشار الأسد ديكتاتور مضطرب.. والأب ديكتاتور عاقل“
يوم 31 مارس الماضي، صباح الثلاثاء في الساعة الخامسة بتوقيت باريس، رحل أبرز السياسيين السوريين على مدار عقود، الذين عاصروا حكم حافظ الأسد عن قرب. انتهت مسيرة نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام عن عمر 88عاما، ليطوي التاريخ الحديث سيرة أهم رجال وصناع السياسة في سورية. كان الأسد الأب تواقاً ليكون خدام الرجل السني من مدينة بانياس الساحلية ذراعه السياسي الأيمن ليثبت أن حكمه يحمل شكل سورية المتنوع من الناحية المذهبية، وليصبح »أبو جمال« بعد مسيرة طويلة في دروب »البعث« الوعرة بمثابة (الصندوق الأسود ) للأسد الأب وأمين أسرار السياسة الخارجية.
تقلد خدام الذي يحمل إجازة في الحقوق، مناصب مهمة في مسيرته السياسية، بدءا من محافظ القنيطرة حماة إلى وزير التجارة والاقتصاد وأخيرا اختاره الأسد واجهة سياسية ليمثل السياسة الخارجية نهاية عام 1970، في أصعب المراحل التي تمر بها سورية وأدق المراحل في حكم حافظ الأسد. كُتب لعبدالحليم خدام عمر جديد في عام1977، حين تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة راح ضحيتها سيف سعيد غباش أول وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، إذ أطلق إرهابيون الرصاص لاغتيال خدام، لكن الرصاصات انحرفت لتستقر في جسد الوزير الإماراتي. وبعد تلك الحادثة أصبح خدام من أكثر المقربين من حافظ الأسد وكاتم أسراره، إذ شعر الأسد أن استهداف خدام استهداف لحكمه ما جعل الرجلين يقتربان من بعضهما أكثر.
بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد في حزيران عام 2000، لم يعد خدام يرى أهمية في استمراره بالعمل السياسي، بسبب حملة التطهير التي طالت ما اصطلح على تسميته بـ »الحرس القديم«، إذ كان خدام من أبرز رجالات هذا الحرس، وبعد خمس سنوات من انقلاب السياسة السورية بين الأب والابن، واستفحال ظاهرة تصفية الحرس القديم التي امتدت إلى أبعاد مالية أيضا، كان قرار خدام حينها بالخروج من البلاد، ليعلن أنه انفصل عن نظام الأسد ومنظومة الحكم، ليختار العاصمة الفرنسية آخر محطاته.
الرواية الكاملة لم تكتب بعد
يحوم الجدل حول خدام ويبقى مثارا للجدل، إذ ينظر إليه (الإخوان) على أنه من المسؤولين عن مجزرة حماة 1982،فيما يرى جيل المعارضة الجديد، أنه المسؤول عن دفن حركة المعارضة المتمثلة في ما يسمى بـ» ربيع دمشق« ؛حينها حاضر خدام في جامعة دمشق في فبراير 2001 وقال: لا نريد أن تكون سورية »جزائر ثانية«، وتم إطلاق يد الجهات الأمنية لحملة اعتقال واسعة للمعارضين ليتم وأد المعارضة.
إقليمياً، يرى اللبنانيون أن خدام الذي عزز نفوذ الحريري من خلال العلاقات الشخصية وأضعف التيارات السياسية المسيحية، كان أسوأ مهندس للسياسة السورية في لبنان، وهو المسؤول عن إطلاق يد الأجهزة الأمنية في لبنان.
والجدل يطول حول مواقف هذا الرجل وما صنعه طوال عقود من الزمن في سورية.!؟
بكل الأحوال، برحيل خدام يرحل معه جزء من تاريخ سورية غير المكتوب، ويرحل أدق وأنجع شاهد على حقبة حافظ الأسد، دون أن يحصل السوريون على الرواية الكاملة لحكم الأسد.
5 مجلدات واتصالات مع خدام
قبل شهرين من رحيله، دارت اتصالات مع الرجل نسرد بعضا منها هنا، وهي اتصالات موثقة وملاحظات دونتها »عكاظ« نقلاً عن النائب الراحل. وبحسب ما قاله خدام لـ »عكاظ«؛ فإنه انتهى من خمسة مجلدات كُتبت دون أن تُنشر أو يتم تقديمها إلى دار نشر، رغم المحاولات البائسة بالنشر، وتركز هذه المجلدات على تاريخ سورية السياسي الذي عاصره حتى خروجه من دمشق 2005، وفي هذه المجلدات كنز من الأسرار عن حكم الأسد الأب، وروايات لم تُذكر بعد مدعومة بوثائق خاصة تمكن أبو جمال من إخراجها من سورية.
لا بد من الاعتراف أن ثمة خسارة كبيرة برحيل خدام، الخسارة ليست بشخصه بقدر ما هي خسارة لأحد شيفرات النظام السوري التي يعرفها الرجل منذ تأسيس حكم البعث في عام 1963. أبو جمال جزء وشريك وعضو فيا لشركة المساهمة البعثية التي ما زالت تحكم سورية، لم يستفد السوريون من تاريخ خدام ولا من تجربته السياسية الدولية والحزبية، وعلى الأرجح كان للإخوان دور كبير في تشويه تاريخ هذا الرجل وتحويله إلى رفعت أسد »سني« ،بعد أن فشل التحالف مع الرجل في جبهة الخلاص.
ومن منطلق مساهمته في بناء هذا النظام والخروج منه في مرحلة التحول مع الأسد (الابن)، كان لا بد أن يكون لهدور في التعامل مع هذا الأخطبوط من الخارج، خصوصا بعد الثورة السورية مع الأخذ بعين الاعتبار حجم العلاقات التي خلفها وراءه في مؤسسة الجيش وبعض مراكز الدولة، لكن مسارات الثورة احتفظت ببعض الأحقاد القديمة على رجال النظام.
خدام الخبير في تركيبة الشرق الأوسط من خلال عمله مع النظام السوري على مدار عقود، يحسب له أنه أول من خرج عن الحرس الجديد بعد تولي بشار الأسد السلطة في يونيو عام 2000 إثر وفاة الأسد (الأب)، وهو أبدى استعداداً للمحاكمة في سورية لكن ليس في حكم الأسد، إذ إن محاكمه تبنى تحت المشانق.
لا يمكن لوم خدام على عمله مع نظام الأسد طوال السنوات الماضية، وهو الرجل الأول الذي علم السوريين كيف يقولون لا من داخل المنظومة، فجميع السوريين كانوا يعملون ليس للدولة السورية وإنما للأسد.
لماذا رفض البقاء في سورية؟
أحداث الثورة في 2011 هي من دفعت طيفاً كبيراً من السوريين للانشقاق عن النظام، بينما خدام سبقهم بست سنوات، في حين كان قادراً على اعتزال السياسة والمكوث في سورية بامتيازات مالية نادرة مع مجموعة أبنائه الذين كانوا من طبقة رجال الأعمال، ذلك أن العمل مع نظام الأسد ليس تهمة منذ عام 1970 حتى 2011، لكن خطاب الشعوبية السياسية السورية حول خدام إلى فاسد، بينما أصبح الفساد والتبعية صفة ثابتة في الشخصية السياسية السورية وتتصدر بعض شخصيات المعارضة قائمة الفاسدين، وهذا ليس سراً.
اللف والدوران السياسي لدى الكثير من المعارضين السوريين، تجلى في علاقة خدام بالثورة، إذ كشف الراحل عن لقاءات عديدة مع رؤساء ائتلاف وقيادات معارضة طول السنوات الماضية، باستثناء برهان غليون الذي صارح خدام بعدم رغبته في اللقاء، إذ يعتبر غليون في أحد أحاديثه مع »عكاظ« سابقا، »أن خدام أساء للشعب السوري«، بينما العديد من قيادات المعارضة كانت تلتقي خدام نهاراً وتلعنه ليلاً.
ماذا قال عن »الإخوان« وبشار وإيران؟
في أحاديث خدام الأخيرة مع »عكاظ«، كانت له تصنيفات للمعارضة السورية وللإخوان ولبشار وإيران، فب النسبة للمعارضة طالما كان يرى فيهم »صبيانية« سياسية وأنهم لا يعرفون سورية إلا على الخريطة، أما الإخوان فهم أسوأ طرف في المعادلة السورية، حيث وصفهم »بأنهم مستعدون للعمل مع الشيطان ولديهم هوس بالوصول إلى السلطة«، وهم يحملون مسؤولية بالتقاسم مع الأسد لما آلت إليه الأمور في سورية. كان يرى في إيران الخطر الأكبر على المنطقة، وكشف في نصائحه الأخيرة -كما يقول- أنه قال لبشار بعد رحيل والده »احذر من ثعالب إيران« ،حينها رد بشار حرفيا »هم أفضل لنا من العرب المتقلبين وأنا أعرف أدير أمور البلد«.
يصف خدام بشارا لأسد بأن والده حافظ لم يكن يثق به أصلاً، ويكشف أنه كان يحتقر حماس وخالد مشعل ويعتبرهم منافقين لا يمكن الوثوق بهم لولا أنه كان يستخدم الحركة كورقة إقليمية، فيما كان خاضعا لما سماه »سحر حسن نصر ﷲ«.. وكان يكره الحديث مع الرئيس المصري الراحل حسني مبارك ويتملق القذافي دوماً من أجل المال، ولم يؤمن يوماً بالعمل العربي. ويختم خدام بأن الأسد (الأب) كان ديكتاتوراً عاقلاً، لكن بشار ديكتاتور مضطرب.
ما هو رأيه في السياسيين اللبنانيين؟
كان لافتاً حديث خدام عن السياسيين اللبنانيين، وسننقل بأمانة ما قاله بحق هؤلاء، إذ كان يعتبر أن هذا الوسط يغير موقفه ورأيه باتصال واحد من الأسد، يقول خدام »لا يوجد سياسي لبناني حقيقي.. هم ينفذون أجندة وطلبات الأسد .. الوحيد الذي كان رجل لبنان “كمال جنبلاط” الذي اغتالته المخابرات السورية«.
ويضيف: لبنان لن يصل إلى مرحلة الدولة، فلا السياسيون ناضجون ولا إيران مستعدة أن تترك لبنان، وكل سياسي يمكن شراء ذمته في الصباح وتغييره في المساء، وهذا ما جعل الأسد يقول ذات مرة لخدام »لا يأتي من لبنان إلا وجع الراس«.. و» هدول ما يجو إلا بالرص«.. أي لا يمكن التعامل معهم إلا بالعنف والترويض .ما كتبه خدام في مذكراته التي ما زالت في مكتبته في باريس، يشكل معرفة ثمينة لتاريخ سورية والمنطقة، وبالتأكيد لن يكون خدام صادقاً في كل ما يسرد ويروي مثله مثل معظم السياسيين الذين يدونون مذكراتهم، إلا أنه يظل وثيقة تاريخية تروي نشأة حكم الأسد وعلاقاته بالخارج والداخل وكيف حكم سورية على مدار ثلاثة عقود.