رسالة إلى البعثيين في سورية: ليكن خياركم مع الشعب وليس مع نظام لم تعرف سورية في تاريخها أكثر منه ظلماً وقهراً للناس ونهباً لأقواتهم
أيها البعثيون
في الذكرى الثانية والستين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي رأيت من واجبي أن أوجه لكم هذه الرسالة في الوقت الذي يزداد فيه استبداد نظام الأسرة الحاكمة ويزداد فساده وتشتد معاناة الشعب وضعف البلاد وتخلفها وانتشار الفقر والجوع والبؤس ويجري كل ذلك تحت مقولة ( حزب البعث العربي الاشتراكي قائد المجتمع والدولة )
إن الغالبية الكبرى منكم أيها البعثيون لم تواكب مرحلة تأسيس الحزب ولا مرحلة نضاله بين التأسيس وبين حله بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958
كان الحزب منارة للفكر القومي مناضلاً من أجل الوحدة العربية مكافحاً من أجل قضية فلسطين مسانداً لحركات التحرر الوطني العربية حامياً للحريات العامة والفردية وللديمقراطية ومتصدياً للحكومات العسكرية وكان له دور كبير في إسقاطها ومدافعاً عن قضايا الجماهير من عمال وفلاحين وفقراء ومظلومين ومناضلاً ضد المشاريع الأجنبية ومعززاً للوحدة الوطنية
في تلك المرحلة كان البعثيون حيث وجدوا في الوطن العربي دعاة مبشرين بمبادئهم مكافحين من أجل الاستقلال والحرية والديمقراطية ومناضلين في دعم حركة التحرر الوطني والمشاركة بها ، لم تكن ترهبهم سلطة ولا يفسدهم مال كانوا حاملي رسالة قومية ووطنية وتحررية وتقدمية
إن الهدف من طمس تاريخ تلك المرحلة حتى لا يظهر الفرق بين الحزب الذي كان يناضل من أجل قضية وبين حزب استغلته السلطة ليشكل غطاء لها
كان الحزب حزب الوحدة العربية وعندما وضع أمام خيار الوحدة أو الحزب أختار الوحدة
كان الحزب حاملاً قضية الحرية ، حرية الفرد وحرية المجتمع
كان الحزب مناضلاً ومدافعاً عن قضايا الشعب وعن حقوق الجماهير وفي الوقت نفسه كان عاملاً على تعزيز الوحدة الوطنية
أيها البعثيون
بعد انهيار الجمهورية العربية المتحدة في الثامن والعشرين من أيلول عام 1961 فشل البعثيون في إعادة وحدة الحزب واختلفت توجهاتهم بين موالي جمال عبد الناصر وتمثل هؤلاء في حركة الوحدويين الاشتراكيين وبين معاد له تمثل في حركة الاشتراكيين العرب كما التزم فريق بالقيادة القومية وفريق آخر شكل التنظيم القطري ، كل ذلك بالإضافة إلى التنظيم العسكري الذي شكلته مجموعة من الضباط البعثيين خلال الوحدة مع مصر
في الثامن شباط عام 1963 استولى البعثيون في العراق على السلطة بالقوة
وفي الثامن من آذار عام 1963 نجح التحالف العسكري بين اللجنة العسكرية التي كانت تقود التنظيم العسكري البعثي وبين التيار الناصري ومجموعة اللواء زياد الحريري بالاستيلاء على السلطة وإسقاط حكم الانفصال
بعد شهرين نجح البعثيون بالاتفاق مع اللواء زياد الحريري رئيس أركان الجيش في تسريح الضباط الناصريين من القوات المسلحة مما دفع وزراءهم للاستقالة من الحكومة وبعد وقت قصير أطاح البعثيون باللواء زياد الحريري الذي عين سفيراً في فرنسا
وهكذا أنهى البعثيون الصراع على السلطة مع حليفهم الناصري ثم مع حليفهم زياد الحريري لتبدأ مرحلة جديدة للصراع على السلطة بين البعثيين أنفسهم
أيها البعثيون
لم تدرك القيادتان المدنية والعسكرية للحزب آنذاك خطورة الإنفراد بالسلطة والاستئثار بالقرار لآن ذلك يجعل القمع وسيلة لحماية النظام من جماهيره كما يفتح الباب أمام صراع بين الطامعين في امتلاك السلطة
لم تدرك القيادة أن تجاوز مبادئ الحزب الداعية للحرية والديمقراطية سيجعل من أمتلك السلطة حاكماً معزولاً عن شعبه سواء كان فرداً أو جماعة أو حزباً
لقد دفعت السلطة البعثيين إلى التغيير الجذري في مبادئهم وتبني فكراً شمولياً ماركسياً ثورياً
لقد بدأ الصراع في الحزب بعد إبعاد الناصريين واللواء زياد الحريري وبرز ذلك في العراق حيث أدى الصراع إلى انهيار نظام الحزب في 18 تشرين الثاني عام 1963
كما برز في سورية خلال المؤتمرين القطري الأول والمؤتمر القومي السادس وأستمر الصراع في المراحل التالية
بين تاريخي الثامن من آذار عام 1963 والثالث والعشرين من شباط عام 1963 شهدت سورية تشكيل سبعة حكومات بسبب الصراعات المتتالية على السلطة وعلى مرجعية القرار وحسم ذلك الصراع بعمل عسكري مباشر في 23 شباط عام 1963
ولقد أدت تلك الصراعات إلى شلل الدولة وأجهزتها ومؤسساتها مما ألحق أضراراً كبيرة في البلاد
وبين الثالث والعشرين من شباط عام 1966 وبين السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970 استمرت الصراعات على السلطة في الحزب حتى حسم الأمر بالقوة في حركة تشرين عام 1970
في تلك المرحلة كانت الضربة الكبرى والمؤلمة والخطيرة التي هزت سورية هزيمة حزيران عام 1967 وتوقع الكثيرون في البلاد وفي الحزب إجراء تقيم للهزيمة وأسبابها وتحديد المسؤولية ولكن ذلك لم يحدث
اشتد الصراع في الحزب بعد هزيمة حزيران ونشأ تيار تقوده القيادة القطرية يدعو للمزيد من المواقف الثورية والتشدد في الداخل وكذلك التشدد في العلاقات العربية ، وفي الوقت نفسه نشأ تيار آخر قاده الفريق حافظ الأسد عضو القيادة القطرية وزير الدفاع يدعو للانفتاح الداخلي واستعادة الوحدة الوطنية وتحقيق أوسع مشاركة شعبية في إدارة شؤون البلاد والحوار مع الأحزاب القائمة آنذاك بالإضافة إلى الدعوة لانفتاح عربي يساعد في حشد الطاقات وتشكيل الجبهة الشرقية بمشاركة العراق والأردن
وحسم ذلك الصراع بالقوة عبر اختلال توازن القوى في القوات المسلحة لصالح التيار الثاني
ومن الأمور الخطيرة التي استخدمت في الصراع على السلطة استخدام القوة العسكرية مما أنهى دور الحزب وأصبح من يمتلك القوة يمتلك القيادة وهكذا فقد شل الحزب وتراجع دوره وأصبح ستاراً لكل الطامعين في السلطة
كانت طموحات التيار المؤيد للفريق حافظ الأسد استعادة الوحدة الوطنية وتحقيق انفتاح سياسي وانفراج اقتصادي وحوار مع الأحزاب وتشكيل جبهة وطنية ووضع دستور للبلاد بالإضافة إلى تحقيق أوسع مشاركة شعبية في أمور الحكم
كانت السنوات الأولى من عقد السبعينات مرضية إلى حد كبير إذا أخذنا الأوضاع التي كانت قائمة قبل ذلك بالاعتبار فقد تم تشكيل الجبهة الوطنية وانفراج سياسي واقتصادي ووضع دستور للبلاد وتشكيل مؤسسات دستورية وكذلك تشكيل حكومة شاركت فيها أحزاب الجبهة
كما تم في تلك المرحلة انفتاح عربي واسع وإعادة العلاقات المقطوعة بين سورية وعدد من الدول العربية كما تم بناء علاقات متينة مع مصر والاتفاق على العمل العسكري المشترك لتحرير الأراضي العربية المحتلة بالإضافة إلى ذلك فقد نجحت سورية بنقل قضية الصراع مع إسرائيل وقضية حرب التحرير إلى مجلس الدفاع العربي والذي ساهم مساهمة جيدة في الإعداد والمشاركة
في تلك المرحلة كانت جميع القرارات الأساسية تناقش وتقرر في قيادة الحزب وفي قيادة الجبهة الوطنية بما في ذلك قرار حرب تشرين
المشكلة الكبرى في تلك المرحلة أن حجم الحزب وقدراته لم تكن تتناسب مع مسؤولياته في إدارة السلطة وحتى في قدرته على المشاركة الحقيقية وذلك أن الصراعات الحزبية منذ حركة آذار وما تلاها قد استنزفت كوادر الحزب ولم يبقى منها إلا عدد قليل ومع فتح أبواب الانتساب للحزب فقد تدفق عشرات الألوف الذين عجز الحزب عن تأهيلهم تأهيلاً حزبياً واعياً فأصبحوا عبئاً على الحزب ومعظمهم وفد إلى الحزب لأسباب لا تتعلق بمبادئه وإنما تتعلق بالسلطة
غير أن الأمر الخطير الذي بدأ بالحدوث منذ الأيام الأولى لحركة تشرين تغاضي الفريق حافظ الأسد عن تدخل أقربائه في شؤون السلطة واستخدام النفوذ لممارسة الفساد وقبض الرشاوى وجمع الأموال مما فتح الطريق أمام نسق آخر من أعوان الفريق حافظ الأسد لسلوك نهج أقربائه في جمع الثروة عبر الفساد وظهر الأمر وكأنه حالة طبيعية تشرع الفساد
منذ بداية عام 1974 غاب دور المؤسسات الدستورية والحزبية وبقي دور الرئيس فهو الرئيس وهو السلطة التشريعية وهو السلطة التنفيذية وهو رئيس الأمن الذي يسجن والذي يخلي سبيل السجين فنشأ في البلاد وضع شاذ ، كان الجميع ينتقدون تلك الأوضاع في الغرف المغلقة وكانوا يمجدون الرئيس في العلن وكانت هذه الظاهرة تعبر عن حالة الخوف التي كانت قائمة في الحزب والدولة وفي كل المستويات
في تلك المرحلة تقدم دور أجهزة الأمن وفقدت جميع المؤسسات الحزبية والحكومية دورها المحدد لها في الدستور أو القانون أو في أنظمتها الداخلية
لقد أدى سلوك النظام نهج العزل والإقصاء والتمييز إلى نمو حالات هزت الوحدة الوطنية كالطائفية والمشكلة الكردية
وفي تلك المرحلة تراجع الأكفاء وتقدم الانتهازيون والمنافقون والمصفقون
ومن الأمور الخطيرة والبارزة والتي شكلت ثغرة سوداء في تاريخ النظام إقدام الرئيس حافظ الأسد على تجاوز القيم الوطنية والحزبية بالعمل على توريث أحد أبنائه رئاسة الدولة
بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد وتولي أبنه مقاليد السلطة فقد أمل بعض السوريين أن يكون الوافد الجديد إلى الرئاسة أكثر انفتاحاً واستعداداً لتطوير البلاد وتحديثها وإصلاح ما فسد من أحوالها ، ولم يمضي عام واحد حتى بدأت تترسخ القناعة بأن التطوير والإصلاح والتحديث أمور ليست واردة في ذهن الرئيس الجديد .
إن التطور الوحيد البارز الذي قام به هو تحويل الفساد إلى مؤسسة مكونة من أفراد الأسرة الحاكمة وأعوانها وتحولت هذه الشريحة الجديدة إلى قوة اقتصادية عبر سيطرتها على ثروات البلاد ومواردها ومؤسساتها الاقتصادية
كما أستمر القمع والتعذيب والقتل ومصادرة الحريات من أكثر ممارسات النظام سوءاً
أيها البعثيون
بعد ثلاث وستين عاماً على تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي دعونا نتساءل عما آلت إليه أحواله وأحوال البلاد في ظل نظام أحكم قبضته على الشعب مستخدماً الحزب غطاء لممارساته
كانت طموحات الحزب تحقيق الوحدة العربية من الشام إلى تطوان وها نحن اليوم طموحنا استعادة الوحدة الوطنية التي فككها الاحتقان الطائفي الذي أنتجه النظام بسلوكه
وممارسته ونهجه في التمييز بين المواطنين بالإضافة إلى المشكلة الطائفية فقد برزت المشكلة الكردية بسبب سياسة التمييز والقمع والظلم التي مارسها النظام
كانت طموحاتنا تحرير فلسطين فأصبحت فلسطين كلها محتلة كما أحتل جزء من سورية دعونا نتساءل عن شعار الحرية في ظل القمع ومصادرة الحريات العامة والفردية وتحويل البلاد إلى سجن كبير
دعونا نتساءل عن أسباب الخوف المزروع في عقول وقلوب المواطنين
هل تساءلتم أيها البعثيون لماذا السجون في سورية مليئة بالمواطنين الذين يتطلعون إلى الحرية والعدالة في الوقت نفسه تتكاثر الجرائم وتنتشر أنواع لم تكن معروفة في البلاد ، هل تساءلتم لماذا يسجن الوطنيون بسبب آرائهم في الوقت الذي يسرح ويمرح به المجرمون ؟
هل تساءلتم من يحمي هؤلاء المجرمين ومن يحمي الجريمة ؟
كلكم تعرفون أن هؤلاء المجرمين معظمهم محمي من بعض أجهزة الدولة وبعض كبار المسؤولين وبعضهم أنتجه النظام بفساده وسياساته التي أدت إلى خفض مستوى المعيشة وارتفاع الأسعار وازدياد الفقر والبطالة
أيها البعثيون
وضع الحزب في مبادئه وشعاراته قضية الجماهير وحمايتها وحقوقها من عمال وفلاحين وصغار كسبة ومحرومين وفقراء ومضطهدين هل تساءلتم عما يجري لهؤلاء الموطنين من ظلم واضطهاد وما يعانونه من فقر وحرمان وجوع في الوقت الذي تجمعت فيه الثروة بأيدي شريحة الفساد
كلكم يعرف كيف كان هؤلاء يعيشون قبل تشرين الثاني عام 1970 ، لم يكن أحدهم يملك شروى نقير والغني بينهم كان راتبه لا يتجاوز 500 ليرة سورية شهرياً وهاهم اليوم يملكون معظم ثروات البلاد
موظف صغير في الجمارك محمي من أقرباء رئيس الدولة تم الكشف عن ثروته النقدية والتي بلغت ملياري ليرة سورية ومائة وثلاثون مليون دولار وطنين من الذهب ومجوهرات قدرت بأكثر من مليار ليرة سورية بالإضافة إلى مئة وأربعين عقار مسجلة باسمه وبأسماء أفراد عائلته عدا ما يملكه في خارج البلاد
إذا كان حسن مخلوف الفقير بينهم يمتلك هذه الثروة فكيف حال كبارهم وكيف الأمر بالنسبة لأفراد الأسرة الحاكمة
أيها البعثيون
بإسم القيادة المؤقتة لحزب البعث العربي الاشتراكي في سورية أتوجه إلى البعثيين الشرفاء الذين لم يتلوثوا بممارسة الفساد أو القمع أو الإساءة إلى الوطن والمواطنين أن يتمعنوا في ما آلت إليه أحوال الحزب والبلاد وأن يتحملوا مسؤولياتهم الوطنية وأن يقتلعوا الخوف من قلوبهم وعقولهم وأن ينظموا أنفسهم ويوحدوا جهودهم وأن يكونوا شركاء مع قوى الشعب الأخرى من أجل تحرير سورية وخلاص شعبها فإن في ذلك إنقاذاً لمبادئهم وقيمهم كما هي إنقاذ للبلاد ولمستقبلها
فليكن خياركم مع الشعب وليس مع نظام لم تعرف سورية في تاريخها أكثر منه ظلماً وقهراً للناس ونهباً لأقواتهم
تأكدوا أيها البعثيون أن التغيير قادم وأن شمس الحرية ستشرق من جديد في سماء سورية
عاشت سورية حرة سيدة
عبد الحليم خدام