دمشق تطلق سراح الطيار الأميركي وسط جولات مكوكية لرامسفيلد مبعوث البيت الأبيض… وواشنطن تفشل زيارة سرية لحكمت الشهابي
وسط تبادل القصف العسكري الأميركي–السوري في لبنان ومرض الرئيس حافظ الأسد وطموح العقيد رفعت في السلطة وتصاعد الحرب العراقية–الإيرانية، التقى وزير الخارجية السوري عبدالحليم خدام والسفير الأميركي روبرت باغانيللي في دمشق خلال شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1983، ودار الحوار الآتي:
خدام: هل تسمحون للطيران السوري أن يطير فوق القوات الأميركية؟
السفير: هذه الطائرات لديها إذن من الحكومة اللبنانية بأن تقوم بعمليات ضمن القوات المتعددة الجنسيات
خدام: نعم ونحن قوة شرعية في لبنان ولنا حقوق متعددة أيضا. نحن أعطينا تعليمات مشددة إلى قواتنا بأن لا تطلق أي طلقة من مناطق وجودها باتجاه القوات المتعددة الجنسية. هذا الأمر لا يزال معمولا به على الأرض، إذن لماذا تشن هذه الغارة على قواتنا؟ من أبسط مبادئ العلوم العسكرية أن أي قوات يأتي طيران أجنبي فوقها ستضرب، بغض النظر عما إذا كانت تصيب أو لا تصيب. لذلك يمكن أن نصل إلى اتفاق ضمني نقول فيه: القوات السورية تتشدد في منع السماح بإطلاق أي طلقة من أماكن وجودها باتجاه القوات المتعددة الجنسية، وفي المقابل يمتنع طيران هذه القوات عن التحليق فوق القوات السورية، ولا تتعرض لمناطق وجود القوات السورية بالأسلحة المختلفة. نحن بالفعل لا نريد التصادم، والمعركة ليست بيننا وبين الأميركيين. المشكلة بيننا وبين إسرائيل، فلماذا تحشر الولايات المتحدة نفسها بهذا الشكل؟ صدقني أنا متأثر لهذا الطيار الأميركي الذي قتل (بقصف سوري مع أسر طيار آخر) مثلما أنا متأثر للجندي السوري. ونحن قلقون على قواتنا في لبنان بسبب وجود الأسطول السادس، وبصورة خاصة بعد زيارة إسحاق شامير الأخيرة إلى واشنطن. كيف نستطيع أن نزيل هذا الخطر؟ هل يسمح لنا الأسطول السادس الأميركي بالتحليق اليومي فوقه؟ طبعا لن يسمح، وبغض النظر عن كون الولايات المتحدة الأميركية دولة عظمى- ونحن دولة صغيرة- يجب أن نتعامل بقواعد متساوية
طيار أميركي أسير في سوريا
طلب السفير باغانيللي من خدام إطلاق سراح الطيار الأميركي الأسير روبرت غودمان، الذي كانت سوريا قد احتجزته بعد الغارة الجوية على مواقعها في شهر ديسمبر. سأل عن صحته وأجاب خدام أنه بخير وأن لجنة من الصليب الأحمر الدولي تزوره بانتظام، مذكرا بأن غودمان أسير حرب وبأنه كان يقوم بعمل عدواني ضد القوات السورية. وعندما لم يسمح خدام بمزيد من الكلام في هذا الموضوع، أنهى السفير باغانيللي بالحديث: “يجب أن يكون واضحا كليا من طرف الولايات المتحدة، أننا سنستمر في الطلعات الجوية”، فقال خدام: “وواضح كليا أن الرد سيكون مستمرا من جانب القوات السورية”
السفير: ومرة أخرى سنرد على الرد
خدام: وسنستخدم الوسائل المتاحة لدينا للرد على الرد. نحن نقول لكم لا نرغب في صدام معكم، ولا نرغب في تصعيد الوضع. نرغب في خلق الظروف الملائمة لعودة العلاقات الطبيعية بين البلدين، ومع ذلك تقولون: سنستمر في تحديكم والتحرش بكم. هذا الأمر الشعب الأميركي لا يوافق عليه. الوجود الأميركي في لبنان وجود لا مبرر له. جئتم حتى تحموا المخيمات الفلسطينية وأصبحتم تضربون الجيش السوري. أخشى أن تضربوا دولا عربية أخرى
اقترح الجانب الأميركي استمرار المباحثات في واشنطن، وأن يزورها رئيس أركان الجيش السوري العماد حكمت الشهابي لمتابعة موضوع غودمان، لكونه قد شارك في مباحثات مماثلة سنة 1974 (في إشارة إلى اتفاق فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل برعاية أميركا) أكد السفير الأميركي باغانيللي أن الزيارة ستكون في منتهى السرية “ولن يعرف بها سوى عدد قليل جدا من المسؤولين لدينا”. طلب خدام مهلة لمناقشة الأمر مع القيادة السورية، ولكن جورج شولتز نكس بالوعد وقال لوسائل إعلام أميركية إن مسؤولا سورياً رفيعاً سيزور واشنطن قريبا لأجل موضوع الطيار الأسير. ولذلك، لم تحصل زيارة الشهابي واستؤنفت المباحثات في دمشق، التي أدت إلى إطلاق سراح غودمان بواسطة المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية القس جسي جاكسون في مطلع عام 1984. أمر الأسد بتسليم غودمان إلى جاكسون في وزارة الخارجية السورية، وأبلغه خدام: “إن الطيار غودمان من الناحية القانونية تحت تصرف السفير الأميركي (روبرت باغانيللي)، ومن الناحية السياسية تحت تصرف القس جاكسون. ابتسم السفير وقال: “أنتم السوريون ماهرون وشطار
وبعد أن تم تسليم الطيار الأسير أصدرت دمشق البيان التالي
استجابة للنداء الإنساني الذي توجه به القس جاكسون إلى الرئيس حافظ الأسد رئيس الجمهورية خلال استقباله له وللطلبات التي تقدمت بها الحكومة الأميركية للإفراج عن الطيار الأميركي الأسير الملازم غودمان، ومساهمة من الحكومة السورية في خلق الظروف التي تسهل سحب القوات الأميركية من لبنان، فقد قررت الحكومة السورية الإفراج عن الطيار الأسير. وتأمل الحكومة السورية أن تتخذ الحكومة الأميركية الإجراءات لإنهاء تورطها العسكري في لبنان والذي حمل الآلام للبنان والمنطقة وللشعب الأميركي نفسه كما زاد الوضع تعقيدا في البلد الشقيق وفي المنطقة كلها
الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد
أراد الأسد من تسليم غودمان “ضرب عصفورين بحجر واحد”: مد يد التعاون إلى ريغان. وفي المقابل، إقناعه بضرورة بقاء سوريا في لبنان كعنصر أمان لكل الأطراف. وإن كانت الحادثة ستزيد من الضغط الشعبي الأميركي للانسحاب من لبنان، فهذا سيكون من دواعي سرور القيادة السورية. وفي 13 يناير/كانون الثاني 1984، تلقى الرئيس الأسد من نظيره الأميركي الرسالة التالية
نيابة عن الشعب الأميركي أود أن أشكركم وحكومتكم على إطلاق سراح روبرت غودمان في 3 يناير/كانون الثاني، أود أن أؤكد لكم أن هذه اللفتة الإنسانية لها تأثير مفيد على جو علاقاتنا مع سوريا. أرجو أن تتأكدوا يا سيادة الرئيس أن الولايات المتحدة لا تكن أي نوايا عدائية نحو سوريا، وآمل أن تمتد روح البادرة التي قمتم بها اليوم إلى حوارنا المستمر
علمت بسرور عن شفائكم من المرض الذي ألمّ بكم مؤخرا وإنني مسرور لاستطاعتكم أن تنشطوا على نحو متزايد، أهنئكم وآمل أن تستمر صحتكم في التحسن إن ممثلي الشخصي. السفير دونالد رامسفيلد يتطلع إلى تبادل وجهات النظر معكم عندما يزور سوريا في المستقبل القريب
مع أطيب التمنيات
المخلص
رونالد ريغان
الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان
وقد أجابه الأسد بالرسالة التالية
تلقيت بسرور رسالتكم المؤرخة في الثالث من كانون الثاني، وأود بهذه المناسبة إن أشاطركم الرغبة باستمرار الحوار فيما بيننا. سيكون السيد دونالد رامسفيلد مبعوثكم الشخصي موضع ترحيبي في دمشق ويسرني أن أستقبله خلال زيارته المقبلة. أشكركم على اهتمامكم بصحتي، أرجو أن تتقبلوا أطيب التمنيات لكم بالصحة والسعادة
9/1/1984
المخلص
حافظ الأسد
زيارة رامسفيلد الثانية
وصل رامسفيلد إلى دمشق في 14 يناير 1984، وعاد إليها في الثاني عشر من الشهر نفسه. قال لخدام
إنني مسرور بسبب إطلاق سراح الملازم غودمان، وكما تعلمون فإن الولايات المتحدة شعرت بأنه يجب معالجة الموضوع على أساس إنساني، ولم نكن نريده أن يتشابك مع مواضيع ومشاكل أخرى. أنا مسرور أنكم عالجتموه بهذه الطريقة، والرئيس ريغان يشعر بأن اتخاذ الحكومة السورية هذه الخطوة قد أفسح المجال (للتعاون) وهو يعتقد أن هذه الخطوة تمثل فرصة بنّاءة من أجل المضي قدما في حل المشاكل الأخرى. وأشعر أنكم اعتبرتم رسالة الرئيس ريغان بهذه الروح من خلال رد الرئيس الأسد عليها، الرئيس شخصيا يعتبرها لفتة أصيلة من حسن النية
وفي اليوم التالي عقد اجتماع بينه وبين الرئيس السوري، ودار بينهما حوار طويل رغم أن المقابلة كانت محددة بساعة واحدة فقط. بحث رامسفيلد إمكانية الانسحاب الجزئي من لبنان، مع فصل الميليشيات، وكان جواب الأسد: “نحن الآن في عام الانتخابات الأميركية والمتعارف عليه أنه في عام الانتخابات يزداد تأثر الإدارة الأميركية بالنفوذ الصهيوني. نحن لا نعتقد أن هذا في مصلحة الولايات المتحدة أو مصلحتنا
وأضاف الرئيس: “من ناحية أخرى أدبية أو معنوية، لبنان ليس بلدا أميركيا ولا أوروبيا. لبنان بلد عربي فأين مصالح أميركا فيه؟ البعض يقول: للدفاع عن الخليج، وأنا أعتقد هذا منتهى الاستخفاف بالرأي العام الأميركي. لدي حدود متواضعة من المعركة العسكرية، ولست أستطيع فهم كيف يمكن الربط بين الدفاع عن لبنان والدفاع عن الخليج؟ هل الأسطول السادس سيدافع عن الخليج من لبنان؟
وفي 30 يناير 1984 عاد رامسفيلد للمرة الرابعة إلى دمشق، هذه المرة لمناقشة مسألة المفقودين وأسرى الحرب الإسرائيليين مع القيادة السورية. قال إن الإسرائيليين مستعدون للتباحث بشأن هؤلاء الأفراد، ويريدون تسليم جثث المتوفين منهم، سواء في السجون السورية أو في معتقلات أحمد جبريل، زعيم “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين– القيادة العامة”. طلبوا من سوريا أن تبذل “جهدا صادقا” للعثور على المفقودين، وذلك عبر مفاوضات عن طريق الصليب الأحمر الدولي، برعاية أميركية. سمع من السوريين أن لا علاقة لهم بالأشخاص الموجودين لدى أحمد جبريل، وأنهم معنيون فقط بالأسرى الموجودين في سجونهم
مقتل رئيس الجامعة الأميركية في بيروت
انتقل الحديث بعهدها إلى حادثة مقتل رئيس الجامعة الأميركية في بيروت، مالكوم كير، قبل أيام من قدوم رامسفيلد إلى سوريا. كان كير مدرسا لمادة تاريخ الشرق الأوسط ومقيما في الحرم الجامعي المحصن بمنطقة رأس بيروت. منع القوات الإسرائيلية من دخول الجامعة وعندما قالوا له: “نحن جيش إسرائيل” رد بالقول: “وهذه أرض أميركية” قبل أن يطلق مجهولون النار عليه ويقتلوه في 18 يناير 1984. تبنت “حركة الجهاد الإسلامي” العملية، وهي ذات المنظمة التي تبنت تفجير مقر “المارينز”. قال رامسفيلد لعبد الحليم خدام: “تدركون أن السيد مالكوم كير قد قتل مؤخرا في بيروت وأثمن أي رأي يمكن أن تعطوني إياه فيمن قد يكون الفاعل”. المعروف والشائع في الولايات المتحدة، بحسب تعبيره، “وبالتحديد لدى الحكومة الأميركية، أن الإرهابيين ينتقلون عبر سوريا وعبر أراضٍ تحت السيطرة السورية في البقاع، بما في ذلك الإيرانيون. لدينا أدلة أنهم اشتركوا في التخطيط والعمل ضد مواطنين أميركيين
رد خدام بأن حكومته تضع اللوم على القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع وبأن كير قتل لأجل توريط سوريا ونسف التقارب القائم بينها وبين الولايات المتحدة.. “رئيس الجامعة الأميركية في بيروت كان من العناصر المتعاطفة بشكل عام مع المسلمين، وقبل مقتله بفترة، ظهرت مادة إعلامية تهاجمه باعتباره منحازا إلى المسلمين
الرئيس الأميركي رونالد ريغان مع الأمير سعود الفيصل ونائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام في البيت الأبيض، في 20 أغسطس 1982
ربط الجانب السوري مفاوضات الأسرى بانسحاب إسرائيل من لبنان، مع الإشارة إلى حادثة جرت قبل أيام من وصول رامسفيلد، يوم قام فتى من مخيم صبرا عمره 14 سنة بمهاجمة دورية إسرائيلية برشاش كلاشينكوف. قتل بعض العناصر قبل أن يقتل، مما ألهم المزيد من العمليات الانتقامية غير المنظمة في الجنوب اللبناني. لخص خدام الموقف بقوله: “بلد محتل سيقاوم الاحتلال… أفضل طريقة لتجنب تكرار هذه الحادثة تكون في الانسحاب. أما البقاء في لبنان فهذا يعرضهم باستمرار إلى مزيد من أعمال المقاومة الوطنية اللبناني
توقف رامسفيلد عند هذه النقطة وقال: “هناك إيرانيون وغيرهم جاءوا من سوريا، وسهّل لهم الانتقال عبر الحدود السورية في المناطق التي تحتلها سوريا في لبنان. يشاركون في التخطيط والقيام بأعمال ضد الولايات المتحدة والقوات المتعددة الجنسيات في لبنان. هذا يحدث وهو منظم وسوريا مشاركة ومتورطة، لا يمكن لهؤلاء الأفراد أن ينتقلوا بأسلحتهم دون اطلاع وعلم سوريا
خدام: ليس هناك أي سوري له اتصالات مع التنظيمات السياسية الموجودة في لبنان، وليس هناك أي اتصال سوري من أجل التنسيق لأعمال ضد القوات المتعددة الجنسيات أو غيرها في لبنان
أجابه خدام: “أي مسلم يأتي سوريا لزيارة الأماكن المقدسة ومنها قبر السيدة… يأتون إلى هنا سنويا، ومنذ عشرات السنين عشرات الألوف من الشيعة يأتون من إيران، ومن العراق، وباكستان ويتوجهون إلى لبنان. الحدود بيننا وبين لبنان مفتوحة، لا يمكن أن نضع على كل متر جنديا. إذا قلت لك إن آلاف القطع من الأسلحة هربت من لبنان إلى سوريا واستخدمت للقيام بأعمال إرهابية ضد سوريا، هل تصدق؟ إذا أردنا حماية الحدود مع لبنان نريد من حيث العدد جيشا ضعف جيشنا الحالي
أكمل خدام حديثه بالقول إن الولايات المتحدة تحمل إيران أكثر بكثير مما تحتمل بالنسبة للبنان “والأعمال التي تقع ضد إسرائيل ليست لإيران أي علاقة بها
وأنكر خدام معرفة من يقف خلف هذه العمليات قائلا: “نحن في سوريا فعلا لا نعرف من هم. لبنان لديه أسلحة أكثر من أي بلد في العالم، ومنذ عام 1975 وحتى الآن دخل إلى لبنان أكثر من مليون قطعة سلاح. لا يوجد منزل في لبنان إلا وبه كافة أنواع الأسلحة
لم يقنع رامسفيلد بكلامه، الذي عاد وكرر: “سيادة الوزير، هناك الكثير من الاتصالات بين السوريين والإيرانيين، ودرجة التخطيط والتورط الإرهابي في لبنان والمناطق التي تحتلها سوريا في لبنان واضحة. لا يمكن نكرانها أو نفيها
خدام: هذا كلام غير صحيح، وليس هناك أي سوري له اتصالات مع التنظيمات السياسية الموجودة في لبنان، وليس هناك أي اتصال سوري من أجل التنسيق لأعمال ضد القوات المتعددة الجنسيات أو غيرها في لبنان. المعلومات التي تأتيكم من “القوات اللبنانية” هي بقصد تشويش العلاقات بيننا وبينكم. نتمنى أن لا تكون مصدرا للقناعات. نحن منذ ثلاثة أسابيع وضعنا أيدينا على سيارة ملغومة في البقاع، وقبضنا على الأشخاص. السيارة كانت تضم 200 كيلوغرام من المواد المتفجرة، كان مقررا أن توضع في بعلبك. الذي قام بتلغيم السيارة ضابط في الجيش اللبناني، وفي السيارة كان هناك ثلاثة عناصر من “حزب الكتائب”، هم موجودون لدينا. الصيغة المقبولة لدينا أن تنسحب إسرائيل من كل لبنان
لخص رامسفيلد الموقف في خيارين اثنين
الخيار الأول: تنفيذ اتفاق 17 مايو دون أي تقييد، وأن يكون هناك انسحاب إسرائيلي-سوري من لبنان، مع ضمان ترتيبات أمنية لكلا البلدين على الحدود
الخيار الثاني: تحقيق الانسحاب المشترك شرط إلغاء اتفاقية 17 مايو، مع ترتيبات أمنية ملائمة للجهتين
جنود فلسطينيون وسوريون أثناء مغادرتهم بيروت، لبنان، في 27 أغسطس 1982
في كلتا الحالتين، على سوريا وإسرائيل الانسحاب، سواء بشكل جزئي أو كامل
أجابه خدام: “إسرائيل تريد انسحابات متبادلة ولكنها بدأت بانسحاب جزئي من الشوف، سوريا تريد انسحابا إسرائيليا كاملا، وإذا افترضنا أن لا أحد سيحصل على خياره الأول، فهذا يخلق احتمال صيغة أخرى: أن تقوم إسرائيل بانسحاب جزئي آخر، ربما انسحاب واحد أو انسحابان، وأن تنهي انسحابها الكامل قبل أن تنهي سوريا انسحابها الكامل، دون ربط مباشر بانسحاب سوريا
عاد رامسفيلد إلى واشنطن خالي الوفاض وفي 7 فبراير 1984، ألقى الرئيس ريغان خطابا جاء فيه:
من أجل تعزيز سلامة الأميركيين وغيرهم في القوات المتعددة الجنسيات في لبنان، خولت القوات البحرية الأميركية العاملة ضمن القوات المتعددة الجنسيات أن تؤمن القصف البحري والدعم الجوي ضد أي وحدات تطلق النار على بيروت الكبرى من أجزاء لبنانية تقع تحت السيطرة السورية، وكذلك ضد أي وحدات تهاجم مباشرة الأميركيين والآخرين في القوات المتعددة الجنسيات. أولئك الذين يقومون بهذه الهجمات سوف لا يكون لهم من الآن فصاعدا ملاذ يقصفون منه بيروت وفق إرادتهم. سوف نقف بحزم لردع أولئك الذين يحاولون التأثير على مستقبل لبنان بالإكراه
وبعد هذا الكلام الصارم، بدأ ريغان بالتراجع، إذ قال
تلاؤما مع هذه الخطوات طلبت من وزير الدفاع أن يقدم لي خطة لإعادة نشر “المارينز” من مطار بيروت إلى سفنهم الراسية قبالة الشاطئ وإعادة الانتشار. هذه الخطواط ستبدأ قريبا وسوف تسير على مراحل، وسيبقى جهاز عسكري على الأرض في لبنان من أجل تدريب وتجهيز الجيش اللبناني ومن أجل حماية المتبقين من الأميركيين. ستقف قواتنا البحرية ومشاتها قبالة الشاطئ على استعداد كما كانت قبلا، لتقدم الدعم والحماية للأميركيين والآخرين في القوات المتعددة الجنسيات في لبنان، ومن ثم لتساعد على المحافظة على الأمن في منطقة بيروت، كما شرحت سابقا
ومن هنا بدأت الولايات المتحدة بالتراجع والانفكاك عن المستنقع اللبناني الذي وجدت نفسها فيه. في اليوم نفسه، طلب السفير الأميركي روبرت باغانيللي في دمشق لقاء عاجلا مع الرئيس الأسد، قال فيه: تماما كما لاحظتم، فإن الرئيس ريغان أراد الآن تحجيم الوجود الأميركي على الأرض في لبنان، سوف يسحب المارينز تدريجيا من لبنان إلى الشاطئ ثم إلى مكان ما، ولكن سوف نحافظ على وجودنا قرب الشواطئ. نأمل أن تؤدي هذه الإجراءات إلى جعل الجميع يفهمون أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم عن طريق اللجوء إلى قوة السلاح، فقد حان الوقت لمفاوضات جادة، ولقد استمر الإرهاب أكثر مما يجب أن يستمر
اعتبر الأسد أن في رسالة ريغان تهديدا مبطنا لسوريا وسأل السفير باغانيللي: “هذه الرسالة… هل هي رسالة تهديد أم هي رسالة حوار سياسي؟ السؤال الآخر: ما السبب في الرغبة بأن تبلغ هذه الرسالة لي شخصيا؟ إذا كانت الرسالة رسالة تهديد، ومقصود أن يبلغ التهديد لي مباشرة، فأنا أردها مباشرة إلى الرئيس ريغان، وبنفس القوة من التهديد. أما إذا كانت الرسالة مقصود منها حوار سياسي بعيد جدا عن أي تأثير من تأثيرات التهديد أو الفوقية، وتنطلق من تعامل متساوٍ بين ند وند، فقد قلنا سابقا نحن مع الحوار. سوريا ليست طرفا في القتال في لبنان، والمواقع السورية التي تتحدث عنها الرسالة لم توجد الآن وإنما موجودة منذ ثماني سنوات، وبإرادة اللبنانيين شعبا وحكومة شرعية في ذلك الوقت. الولايات المتحدة تقول سنستخدم المدفع والطائرة، بينما نحن نقول سنفعل سياسيا ما نستطيع وسنضغط بقدر ما نستطيع على كل الأطراف للقاء والحوار وعدم الاقتتال. لست أدري لماذا هذا الإصرار على استعمال لغة ليست متناسبة مع واقع الحال وليست مرغوبة في هذا العصر، وليست مجدية. لا أحد يتوقع أن نقول سمعا وطاعة لمن يقول لنا إنه سيضربنا
وفي 10 فبراير، أخذت مشاة البحرية الأميركية (المارينز) بالانسحاب من بيروت، وبدأ التراجع الأميركي الكبير ليس في لبنان فقط، بل في المنطقة كلها، تزامنا مع انسحاب القوات الإسرائيلية إلى المنطقة الآمنة في الجنوب، لتبقى القوات السورية وحدها في الميدان سنوات طويلة. أسقط اتفاق 17 مايو، واستفردت سوريا بلبنان
مع انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني في مايو/أيار 2000 بعد فشل مفاوضات السلام ووفاة الرئيس حافظ الأسد في يونيو/حزيران 2000 زاد نفوذ إيران و”حزب الله” في لبنان. وبعد صدور قرار مجلس الأمن 1559 واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبرابر/شباط 2005 انسحب الجيش السوري في نهاية أبريل/نيسان من العام نفسه، بعد خمس سنوات من وفاة حافظ الأسد
بعد ذلك استفرد “حزب الله” بلبنان وعزز علاقته مع الرئيس بشار الأسد، وساهم “الحزب” مع إيران في “إنقاذ النظام” السوري بعد 2011، وهو الآن يخضع لحرب غير مسبوقة من قبل إسرائيل شملت اغتيال قادته بما فيهم الأمين العام حسن نصرالله وضربات واختراقات أمنية مفاجئة. تل أبيب تقول إن الهدف هو تطبيق القرار 1701 الذي صدر بعد حرب 2006 وتضمن انسحاب “حزب الله” وراء الليطاني وانتشار الجيش اللبناني بدلا منها. وهناك من يعتقد أن الهدف هو تطبيق القرار 1559 الذي تضمن، إضافة إلى انسحاب الجيش السوري، “نزع سلاح الميليشيات”، أي “حزب الله