في منتصف آذار (مارس) من عام 1978، وبعد عملية فلسطينية عبر الحدود اللبنانية- الإسرائيلية قتل فيها عدد من الإسرائيليين، شنت الدولة العبرية اجتياحها الأول، فاحتلت جزءا من جنوب لبنان حتى حدود نهر الليطاني. تمكن لبنان المنقسم داخليا، والذي يعاني مشاكل بين «قوات الردع» السورية والمسيحيين من تحقيق إنجاز القرار 425 الصادر عن الأمم المتحدة، والذي طالب إسرائيل بالانسحاب ونشر قوة دولية في الجنوب لاتزال موجودة حتى اليوم.
وفي الأشهر التالية شهد الوضع الداخلي في لبنان توترات شديدة مع تكريس الخلاف بين «الجبهة اللبنانية» المسيحية ودمشق… وتتالت الحوادث الأمنية. المسيحيون تحت القصف انفجر الوضع من جديد، في الأول من تموز (يوليو) 1978، واندلعت الاشتباكات في الضاحية الجنوبية من بيروت بين الميليشيات المسيحية والقوات السورية، وسرعان ما توسعت رقعة القتال لتشمل مختلف أحياء المنطقة الشرقية. انهمرت القذائف على الأحياء السكنية مخلفة الموت والدمار، وكسائر سكان الأشرفية أمضيت الليل في الملجأ، وتشتتت عائلتي، وأصيب بيتي بصاروخ. مساء الثاني من تموز (يوليو)، عقد الرئيس الياس سركيس اجتماعاً لمعالجة الوضع المتدهور، حضرته إلى جانب رئيس الحكومة، ووزير الداخلية، وقائد قوات الردع العربية. وبناء على طلب المجتمعين، استدعى رئيس الجمهورية رئيس حزب الكتائب بيار الجميل الذي حضر مبدياً استعداد حزبه لوقف إطلاق النار، واتصل بابنه بشير طالباً إليه الالتزام به، بيد أن الاشتباكات استمرت، واضطررنا جميعاً إلى قضاء ليلتنا في القصر الجمهوري. صباح اليوم التالي، دخلت إلى قاعة الاستقبال التي جعلها رئيس الجمهورية مكتباً موقتاً لانكشاف مكتبه على محاور القتال، ووجدت في حضرته جميع ضيوف القصر، فقلت له ما سبق أن تحادثنا به مراراً: «لم يعد بالإمكان الاحتمال أكثر، لابد من خطوة كبيرة تضع كل طرف أمام مسؤولياته». وكنت قد قلت له عندما كنا وحدنا: «ما الذي نفعله بعد هنا؟ لا يجوز أن نبقى في مناصبنا، والدولة تتلاشى، والسلطات باتت وهمية، قد تكون الاستقالة أشرف لنا إذا لم يتوقف القتال».
كنتُ أقدّر كثيراً الرئيس الياس سركيس وصفاته، ولم أرد أن يذكره التاريخ بشكل مجحف، أو أن يصوروه كأنه طرف في القتال الدائر، خصوصاً لأن الرئيس كميل شمعون وحلفاءه كانوا يحملونه مسؤولية تغطية قوات الردع العربية في عملية القصف الذي استهدف المنطقة الشرقية. وقد تعرض القصر الجمهوري لمدة ثلاثة أيام لقصف مصدره مواقع التنظيمات التابعة للجبهة اللبنانية، مما أدى إلى سقوط جرحى من أفراد الحرس الجمهوري. لم نكن نحسد على موقفنا، فالمسيحيون يتهموننا بتغطية سورية ويقصفوننا، والسوريون لا يتجاوبون مع مطالبتنا بوقف إطلاق النار، ويمطرون المنطقة المسيحية بقذائفهم.
مناشدة العالم
اتصل رئيس الجمهورية بنظيره السوري طالباً إليه وقف إطلاق النار، وقد كان لهذا الاتصال رمزيته الكبيرة، إذ كان رئيس الجمهورية حتى ذلك الوقت يتصرف كأنه المسؤول الفعلي عن قوات الردع العربية، مع أن الواقع لم يكن كذلك. وبهذا الاتصال، أعلن أن قوات الردع العربية، وبخاصة السورية، ليست تحت إمرته، كما قضت به مقررات قمة الرياض. في المقابل، وجهت «الجبهة اللبنانية» نداء إلى العالم ناشدت فيه الدول الكبرى تحمل مسؤولياتها حيال «الاعتداء على لبنان الذي يستهدف إبادة مجتمعه الحر والذي ينذر بجعل مشكلة الأقليات في الشرق تنشأ من جديد مما يعطّل كل مسعى للسلم والاستقرار في الشرق الأوسط».
وأدلى الرئيس شمعون بعد النداء بتصريح قال فيه: «إن الوقت حان لوضع حد لوجود قوات الردع العربية في لبنان». وجّه الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم نداء بدوره لوقف إطلاق النار، وأعلنت الخارجيتان الأميركية والفرنسية تأييدهما لنداء الأمين العام للأمم المتحدة، وجددتا الدعوة إلى وقف إطلاق النار، بينما أعربت الحكومة الإسرائيلية عن «قلقها العميق من الهجمات على المسيحيين في لبنان». ثم أشارت مصادر عسكرية إسرائيلية إلى أن «الخسائر التي لحقت بالمسيحيين في لبنان تقلق إسرائيل لأن إضعاف القوة العسكرية للمسيحيين سينعكس بالتأكيد على جنوب لبنان، وعلى المناطق التي يسيطرون عليها».
سقطت اتفاقات وقف إطلاق النار، الواحد تلو الآخر، واستمرت الاشتباكات والقصف السوري، فطلب مني رئيس الجمهورية التوجه إلى سورية في الخامس من تموز (يوليو)، وأوصاني بأن أكون واضحاً، وأسمي الأشياء بأسمائها، وأنقل مآخذنا على السياسة السورية. وقال لي: «إن سورية لا تفهم لبنان، والسوريون لا يفهمون السياسة اللبنانية ولو أقاموا عندنا مئة عام، يريدون تطبيق أساليبهم عندنا، ويعتقدون أن على الرئيس اللبناني أن يحكم لبنان كما يحكم الرئيس السوري سورية، هذا غير منطقي، فلبنان غير سورية، والنظام اللبناني يختلف اختلافاً عميقاً عن النظام السوري. هناك التباس يجب تبديده وإلا تفاقم الخلاف بيننا. إننا نعيش الآن في نزاع حقيقي مع سورية، إذا كانت دمشق لا تريد التعاون معي، فأنا مصمم على الاستقالة. هذه هي الرسالة التي أريد أن تحملها إلى العاصمة السورية».
ذراع إسرائيل
لم تفض زيارتي إلى دمشق إلى شيء، لقد قابل السوريون حزمي بحزم مماثل: «ليتوقفوا عن مهاجمتنا، نتوقف عن قصفهم». وفي موضوع استقالة رئيس الجمهورية، كان وزير الخارجية عبدالحليم خدّام جازماً: «لا يجوز مطلقاً أن نترك الرئيس سركيس يستقيل، إن مجرد إثارة هذه الفرضية يساهم في إضعاف السلطة اللبنانية». أما الرئيس السوري فكان موقفه مختلفاً، وقد قال لي ببرودة أعصاب لافتة: «الاستقالة مجازفة محفوفة بالمخاطر، لا أظن أن الرئيس سركيس سيقدم عليها، وهو لن ينفذ تهديده لأنني أعرفه رجلاً منطقياً ومسؤولاً، وفي أية حال، لن تنفع استقالته بشيء، بل تفتح الطريق للمغامرة. وأنا أعلم أن الرئيس سركيس ليس مغامراً». عدت، في المساء، إلى القصر الجمهوري حاملاً الموقف السلبي السوري، ومقترحاً الاستقالة فأجابني الرئيس: «سأستقيل مادمت غير قادر على عمل شيء».
صباح السادس من تموز (يوليو)، استدعى رئيس الجمهورية كبار المسؤولين في الدولة، وفي مقدمهم رئيس الحكومة سليم الحص. وتوليت إثارة الموضوع قائلاً: «إن الرئيس لم يعد بإمكانه أن يقف متفرجاً على الأحداث وهي تتطور من سيئ إلى أسوأ، وقد تحمل الكثير ولا قِبَل له بأن يتحمل المزيد، لذلك لا مفر له من اتخاذ الإجراء الأقصى». فوافقني الرئيس سركيس الرأي مضيفاً أن استقالته «لابد أن يسبقها استقالة الحكومة لكي يتمكن من تأليف حكومة انتقالية برئاسة ماروني جرياً على العرف الذي بدأه بشارة الخوري عند استقالته عام 1952». وطرح أسماء النائبين السابقين جان عزيز وعبدالعزيز شهاب، والشيخ ميشال الخوري لتولي رئاسة هذه الحكومة، ثم استدعى رئيس الجمهورية رئيس مجلس النواب، وأبلغه موقفه، فحاول دون جدوى ثنيه عن عزمه. وبموازاة البحث في مصير رئاسة الجمهورية، كان عليّ الاهتمام بالوضع الدولي الذي بدأ يتحرك على نحو لم نكن نشتهيه، فقد أبلغني القائم بالأعمال في البعثة اللبنانية إلى الأمم المتحدة سليم تدمري، مساء السادس من تموز (يوليو)، أن نائب رئيس البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة اتصل به، وأبلغه أن «واشنطن اتصلت به الآن وأنها ترغب في دعوة مجلس الأمن إلى الانعقاد، للنظر في ما يجري في لبنان، كما أبلغني أنه سيجري مشاورات الآن مع الأمين العام ورئيس مجلس الأمن لهذا الغرض». لم يكن من الممكن ترك الأمر يصل إلى مجلس الأمن لأن القوى الإسلامية المتحالفة مع الفلسطينيين والسوريين على السواء ترفض بشكل قاطع هذا التدبير مما يهدد بانهيار ما تبقى من استقرار وبانفجار عام على النحو الذي حصل في حرب السنتين.
تمكنت بالتفاهم مع السفير الأميركي ريتشارد باركر من إقناع واشنطن بعدم جدوى هذا المسعى. واستفدنا من الاتجاه الأميركي خصوصاً والدولي عموماً، لعقد جلسة لمجلس الأمن، لإقناع سورية بالمرونة ووقف التصعيد العسكري لاسيما أن تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق المنطقة الشرقية خلق خشية من منعطف دراماتيكي للأزمة. المنطقة على شفير الحرب هدأ الوضع الأمني نسبياً ولكن مع استمرار عمليات القنص، في حين تركزت الأنظار على استقالة رئيس الجمهورية التي فاجأت الجميع بمن فيهم سفير الولايات المتحدة الذي حضر إلى قصر بعبدا فور شيوع الخبر، واجتمع بي مدة ساعة سألني خلالها عن دوافع الاستقالة، وما يمكن القيام به للعودة عنها. وفي ظهيرة ذلك اليوم، ابتدأ السياسيون والدبلوماسيون، باستثناء سفير الاتحاد السوفييتي، يتقاطرون إلى القصر الجمهوري وانهمرت الاتصالات والبرقيات، وقد توليت تلقي معظمها والإجابة عنها بما يلزم. عكست هذه الاتصالات والبرقيات بشكل خاص القلق من الفوضى والفراغ اللذين سوف تخلّفهما الاستقالة. وأذكر أنني انتزعت من الرئيس سركيس الورقة التي كتب عليها استقالته بعدما كان الرئيس كامل الأسعد قد طلب منه أن يستدعيه ويبلغه خطياً الاستقالة إذا بقي مصراً عليها، على رغم أنني من شجعه على التقدم بها، وعلى رغم شعوري بأن أعصابه منهكة ومعنوياته منخفضة، ويصعب عليه مواجهة ما يجري. وعاد السفير الأميركي عند المساء، واجتمعنا ربع ساعة، وفي الواقع، زار باركر القصر الجمهوري أربع مرات خلال الفترة التي كان فيها الرئيس سركيس عازماً على الاستقالة، ناقلاً إليه موقف بلاده على الشكل التالي: «مطلوب منك شيء واحد أن تبقى في منصبك، ابق وراء مكتبك، ونحن نتكفل بإيجاد الحل، إننا مستعدون أن نعمل كل ما تطلب، وأن نساندك بلا تحفظ، إن وجودك ضمانة للجميع، وذهابك يعني دخول لبنان في المجهول واقتراب الشرق الأوسط من شفير الحرب». وفهمت من باركر أن الولايات المتحدة مارست ضغطاً مزدوجاً: على إسرائيل لتوقف مساعدتها للمسيحيين وعلى سورية لتوقف هجومها وقصفها عليهم. غداة إعلان الرئيس نيته الاستقالة برزت عقدة لم تكن في الحسبان، وهي إحجام رئيس الحكومة سليم الحص عن تقديم استقالة حكومته حتى يتمكن رئيس الجمهورية من تشكيل حكومة انتقالية برئاسة ماروني كما يقتضي العرف الذي أرساه الرئيس بشارة الخوري سنة 1952. ولم يكن بإمكان الرئيس سركيس، المتهم دائماً من «الجبهة اللبنانية» بالتراخي في الدفاع عن حقوق المسيحيين، ترك حكومة برئاسة الرئيس الحص تتولى إدارة شؤون البلاد لفترة انتقالية لا يمكن التكهن بمدتها.
رسالة كويتية
جدد الرئيس سركيس مطالبة الرئيس الحص بالاستقالة في الثامن من تموز (يوليو)، فاعتذر مجدداً. وفهم رئيس الجمهورية أنه في حال قرر المضي في مشروع التخلي عن سلطاته الدستورية عليه أن يقيل الحكومة قبل تشكيل أخرى انتقالية. وكان في الواقع يستصعب هذا الخيار حتى لا يزيد الطين بلة ولا يعقد الأمور أكثر مما هي معقدة، وقد يكون إحجام الحص عن الاستقالة السبب الأول الذي جعله يفكر في العزوف عن ترك المنصب الأول، لكنه لم يكن كافياً لحمله على العودة عن الاستقالة. وفي جلسة جمعتنا مساء اليوم نفسه، تفاهمنا على أن هذه العودة يفترض أن يسبقها:
– ضمانة بتطبيق مقررات قمة الرياض. – نزع السلاح تدريجياً من أيدي اللبنانيين.
– إعادة تكوين الجيش. – خضوع قوات الردع العربية بالفعل لسلطة رئيس الجمهورية بانتظار انسحابها النهائي من لبنان.
– استبدال القوات السورية العاملة في إطار قوات الردع العربية المنتشرة في المناطق المسيحية بقوة لبنانية أو عربية غير سورية.
– استعادة الدولة لكل مظاهر السلطة التي تسيطر عليها «الجبهة اللبنانية» وغيرها من قوى الأمر الواقع.
وقد بدا، للرئيس سركيس ولي، أن تأمين هذه الشروط غير ممكن إلا من خلال مجزرة كان يرفضها رئيس الجمهورية رفضاً باتاً. في التاسع من تموز (يوليو)، وصل وزير الخارجية الكويتية صباح الأحمد الصباح حاملاً رسالة مودة للرئيس اللبناني ورسالة دعم لدمشق. وقال للرئيس اللبناني: «إننا لا نقبل بهزيمة جيش الجولان في الأشرفية. وليس في وسع الجيش السوري إلا أن يرد على الذين يعتدون عليه، لقد اصطدم بالفلسطينيين عندما ارتكبوا تجاوزات عام 1976، وهو يواجه الآن المسيحيين المتحاملين على الشرعية والمتعاملين مع إسرائيل». فرد عليه رئيس الجمهورية بتحميل الكويت مسؤولية الوضع المتردي لأنها مانعت عندما كانت دمشق مصممة على تطبيق اتفاق القاهرة. وكان للسعودية في ذلك الحين مبادرة أزعجتنا، إذ إن وزير خارجيتها سعود الفيصل زار دمشق في العاشر من تموز (يوليو)، ولم يكمل إلى لبنان على رغم الوضع المتردي فيه، علماً أنه بحث مع القادة السوريين شؤوناً تتعلق بلبنان. أما سورية فكان موقفها أشبه بتجاهل الاستقالة، وأعتقد أنه كان نابعاً من ثقتها بأن الرئيس الياس سركيس سيعود عنها لانسداد الآفاق أمامه. وقد أعرب عبد الحليم خدام في أكثر من مناسبة عن اعتقاده بأن الرئيس سركيس سيعود عن استقالته لأن الوضع لا يحتمل الفراغ ولأن ليس هناك إمكانية لإجراء عملية انتخابية رئاسية. وأرفق موقفه بتأكيده «أن هذه الاستقالة لن تحمل سورية على الانسحاب تحت ضغط عسكري تمارسه الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار. وهدّد باحتمال قيام الجيش السوري بضرب ميليشيات «الجبهة اللبنانية» التي لا تعبر عن رأي كل مسيحيي لبنان».
تكهنات بحرب طويلة
بين السادس والعاشر من تموز (يوليو)، بقي رئيس الجمهورية مصراً على استقالته، وبقيت مسانداً لهذا التوجه وباحثاً عن الوسيلة لتأمين انتقال سليم للسلطة أو تحقيق الحد الأدنى من المتطلبات التي تقنع الرئيس بالعودة عن الاستقالة. في الواقع، لم نحصل على الكثير من هذه المتطلبات، لكننا وضعنا الجميع، في لبنان وسورية والأسرة الدولية، أمام مسؤولياتهم، وأظهرنا لهم أن الرئيس سركيس غير متشبث بالموقع، وأنه يميل إلى الرحيل إذا لم تخفف القوى من تصلبها، وفي الوقت نفسه برهنا أنه لا مجال لتأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية وأن على جميع الأطراف مراعاة الرئيس الحالي حتى لا يجد نفسه مضطراً إلى ترك المنصب نهائياً إذا استمر التعنت. وبرز عندنا، بشكل خاص، قلق من أن يؤدي الفراغ على مستوى رئاسة الجمهورية إلى وقوع التقسيم كأمر واقع، إذ خشينا أن تطلب «الجبهة اللبنانية» عند استئناف المعارك حماية إسرائيل العسكرية للمسيحيين من سيطرة السوريين، وتنشب حرب طويلة لا يستطيع أحد التكهن بنتائجها. جمع الرئيس سركيس في الحادي عشر من تموز (يوليو) بعض مستشاريه والمقربين إليه، من بينهم سمعان الدويهي، وأحمد الحاج، وجوني عبدو، وغابي لحود، وكريم بقرادوني، وميشال المر، وأنا، وكشف عن الأسباب التي تدفعه إلى إعادة مزاولة مهماته، وبخاصة التأكيد الأميركي على دعمه، لافتاً إلى أن التلويح بالاستقالة قد أدى، على الأقل، إلى وقف المعارك. وحدد المسائل الملحة التي يفترض إنجازها بأقرب وقت ممكن بأربع:
سحب الجيش السوري من الأشرفية،
وإرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب،
وإقفال الإذاعات الخاصة وإعادة تشديد الرقابة على الصحافة،
والدعوة إلى قمة عربية جديدة.
بيد أن رئيس الجمهورية لم يعلن عودته عن الاستقالة إلا في الخامس عشر من تموز (يوليو) في رسالة إلى اللبنانيين تجنب فيها الخوض في الأسباب التي دعته إليها. وقد أثارت الرسالة استياء الطرفين المتنازعين لأنها خلت من جهة من دعوة إلى سحب الوحدات السورية من منطقة الأشرفية، كما أرادت «الجبهة اللبنانية»، ومن جهة أخرى من إدانة للأحزاب اليمينية وتحميلها مسؤولية الاشتباكات التي حصلت، على ما رغبت دمشق. تبدل قواعد اللعبة سبق الإعلان عن العودة عن الاستقالة، رسالة مفتوحة وجهها الرئيس كميل شمعون إلى رئيس الجمهورية، في الثاني عشر من تموز (يوليو)، تميزت بالانتقاد الحاد والجارح والساخر. ومما جاء فيها: (…) هؤلاء اللبنانيون الذين يقاتلون قتالاً مستميتاً من أجل عزة وطنهم وكرامته ومن أجل تحريره من سيطرة الجهل والتخلف، كان من حقهم عليك، من حق الأحياء، وبالدرجة الأولى من حق الشهداء الذين قتلتهم نيران المدافع السورية، أن يسمعوا منك، ولو لمرة واحدة، بياناً معللاً، تشرح فيه الأسباب التي جعلتك تتخذ هذا القرار الرهيب. وبدلاً من ذلك لقد فضّلت الهريبة على الصمود (…) أتعتقد أن عملك هذا هو عمل الرئيس والقائد المسؤول؟» وترافقت رسالة شمعون مع تصاريح مماثلة من شخصيات وقوى تدور في فلك «الجبهة اللبنانية»، وقد أثارت سخطي الشديد ليس فقط لأن فيها تحاملاً على صديقي الرئيس سركيس بل لأنها تعكس نظرة سطحية وغير مسؤولة تهدد مصير عشرة ملايين مسيحي في الشرق. لم أكن متحمساً كثيراً للعودة عن الاستقالة قبل تحقيق الحد الأدنى من الشروط التي تمكن الرئيس سركيس من أن يحكم بالفعل لأن التنازلات التي قدمتها الأطراف غير كافية ولأن انتشار قوى الأمن الداخلي في بعض المواقع في بيروت الشرقية لا ينزع فتيل التفجير. وبقيت على اقتناعي بأن الوضع مقفل، وبأن رئيس الجمهورية معزول، وبأن اللبنانيين يلعبون بخفة بمصيرهم وسيجدون أنفسهم تحت هيمنة سورية أو إسرائيلية. ولقد تبين لي، في تلك الفترة، وقد تعزز هذا الانطباع في الأسابيع التالية، أن الولايات المتحدة غير قادرة على ممارسة الضغوط اللازمة على سورية، وأن الأيام وقواعد اللعبة في الشرق الأدنى قد تغيرت. فسورية لم تعد البلد غير المستقر داخلياً، والولايات المتحدة لم تعد البلد الذي يخيفها.