أصابت مقابلة النائب السابق للرئيس السوري عبد الحليم خدام على شاشة “العربية” النظام في دمشق وأدواته في لبنان بارتباك شديد إن لم يكن بـ”مقتل
فجلسة “مجلس الشعب” التي هرع النظام إلى عقدها لـ”الرد” على خدام والتي بدأت بإسقاط كلمة “السيد” عن نائب الرئيس وانتهت الى طلب محاكمته بتهمة “الخيانة العظمى” نزولاً عند رغبة الجماهير التي احتشدت على “سنترال” محمود الأبرش، أعادت التذكير بالمحاكمات الشهيرة لرئيس المحكمة الثورية في العراق “الجمهوري” فاضل عباس المهداوي الذي كان يسأل “المتهم” عن اسمه واسم والدته قبل ثوان فقط من النطق بحُكم “الإعدام” … كما أعادت التذكير بالمحاكمات الستالينية في دول “الستار الحديدي”. وإذا كان “مجلس الشعب” سار على هذا النحو، فمن باب تحصيل الحاصل ألا تشذّ “القيادة القطرية” لـ”الحزب القائد” عن القاعدة.
إذاً، إن اجتماعَي “مجلس الشعب” و”القيادة القطرية” يدلان على استنفار عشوائي أو على ارتباك، وليسا دليل قوة في مواجهة مقابلة شكلت بلا ريب مضبطة اتهام للنظام في مختلف الميادين والمجالات. أما ما يعكس الارتباك أكثر من غيره، فهو أن “الجماعة” ردت على اتهامها بالأخطاء المتراكمة في لبنان، بأن خدام كان مسؤولاً عن “الملف اللبناني” لسنوات طويلة وهو الذي راكم الأخطاء في “القطر الشقيق”… أي أن القيادة الحالية للنظام حملت القيادة السابقة مسؤولية الأخطاء، فأصابت بذلك رأس النظام في مرحلة ما قبل العام 2000، والذي كان خدام يعمل تحت إشرافه… وهكذا صار الشعبان السوري واللبناني أمام مرحلتين من الأخطاء بين 1975 و1998 (أو 2000) ثم بين 1998 (أو 2000) و2005، لأن القيادة “الشابة” لم تُصحّح منذ تسلمت السلطة أخطاء المرحلة السابقة بل أمعنت فيها وصولاً إلى طرد نفسها من لبنان.
لحود يزوّر في مسألتي المقاومة والمادة 53
هذا في دمشق. أما في بيروت، فكان المشهد، منظوراً إليه من زاوية أتباع النظام السوري مشابهاً. فالرئيس إميل لحود الذي يستمر في رئاسة الجمهورية مديناً بالولاء لولي النعمة، اتهم عبد الحليم خدام بالخيانة أيضاً، لأن النائب السابق لرئيس الجمهورية السورية كان في أعوام التسعينات الأولى فاتحاً على حسابه، ومن وراء ظهر الرئيس حافظ الأسد آنذاك، فارتكب مع حلفائه في لبنان فعل الخيانة بالموافقة على إرسال الجيش الى الجنوب و”تجريد المقاومة من سلاحها”(!).
طبعاً، إن لحود يكرر هنا ادعاء البطولة. غير أنه أضاف إلى “معزوفته” ادعاء جديداً هو أن الرؤساء الياس الهراوي ونبيه بري ورفيق الحريري كانوا ينوون منذ العام 1993 تجريد المقاومة من السلاح! فهل من دليل أوضح على صحة ما قاله خدام من أن لحود كان يمارس التحريض على الرئيس الشهيد (كونه المستهدف بهذه الأكذوبة) في دمشق، حتى بات لتحريضه صدى لدى أصحاب “العقول الصغيرة” بعد أن فشل لدى “العقل الكبير”؟ أما الكذبة الأكبر، فأتت في رواية لحود لظروف اعتذار الرئيس الشهيد عن ترؤس الحكومة في العام 1998.
“روى” لحود أن الرئيس الحريري احتجّ على عدم تسميته إلى رئاسة الحكومة بنفس عدد الأصوات الذي ناله لحود في انتخابات الرئاسة. فقد ظن لحود أن اللبنانيين بلا ذاكرة فنسوا أن الخلاف في خريف 1998 كان دستورياً، إذ أثار الرئيس الحريري عدم جواز تجيير أي نائب لصوته إلى رئيس الجمهورية بموجب المادة 53 من الدستور. كما أثار عدم دستورية نتائج الاستشارات النيابية الملزمة التي أبلغه إياها لحود حين عرض فئتين من التصويت ، فئة الذين سموا الرئيس الحريري وفئة الذين تركوا “الخيار” للحود. غير أن لحود، في استعادته المزوّرة للتاريخ وفيها كلامه عن فترة تعاون بينه وبين الرئيس الشهيد، أعاد التذكير بأن عهده بدأ بخرق الدستور وانتهى عام 2004 بفضيحة التمديد غير الدستوري.
التحقيق الدولي يحثّ الخطى
على أي حال، وفي ما يتجاوز هذه “التفاصيل”، وفي ما يتجاوز “التداعيات السورية” لمقابلة عبد الحليم خدام، يمكن القول إن هذه المقابلة أعادت الاعتبار لمجموعة من العناوين الأساسية.
ففي وقت كان النظام السوري قبل المقابلة، يبدو في صميم هجوم معاكس في لبنان، تارة تحت عنوان أن ثمة صفقة دولية ـ سورية تمت أو هي قيد التحقيق، وتارة أخرى بزعم أن التحقيق الدولي “انتهى” لأنه “لم يقدم أدلة وبراهين” (!)، وفي كل الأحوال مستغلاً “الوقت الضائع” بين انتهاء مهمة ديتليف ميليس وتسلم سيرج براميرتس رئاسة لجنة التحقيق الدولية.. في هذا الوقت أتت مقابلة خدام “تحيي” أولوية التحقيق والحقيقة، وهي الأولوية التي حاربها النظام السوري وأتباعه للانقضاض على الوضع اللبناني.
خدام يحدد مستوى القرار في سوريا وآليته
أعادت مقابلة خدام أولوية التحقيق والحقيقة إذاً. غير أن ما شدد النائب السابق للرئيس السوري عليه، كان “مستوى” القرار في سوريا وآليته. ففيما كان أحد اهتمامات لجنة التحقيق الدولية، ليس معرفة ما إذا كان النظام السوري متورطاً في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بل عند أي مستوى تم اتخاذ القرار باغتيال الرئيس الحريري، جاء خدام ليقول إن مهمة التحقيق الدولي تقضي باكتشاف ما إذا كان ثمة جهاز أمني سوري ضالعاً في الجريمة، “لكن” إذا ثبت أن جهازاً أمنياً قد تورط بالفعل، فهو ـ أي الجهاز ـ لا يمكن في سوريا أن يتخذ القرار بمفرده، في إشارة لا تخفى إلى الهرمية المخابراتية ضمن النظام.
.. ويذكّر بالشبكة التحريضية في لبنان
كذلك، أعاد خدام تحديد حلقة المحرضين على الرئيس الشهيد من “اللبنانيين”. تناول إسمياً إميل لحود وجميل السيد وقادة الأجهزة الأمنية. وتحدث عن حملة التحريض بتوجّهات سورية التي قام بها عمر كرامي وسليمان فرنجية وطلال أرسلان وعاصم قانصوه… ووئام وهاب، مضيفاً أن رأس النظام في سوريا كان يتأثر بهذا التحريض، راوياً التهديدات التي وجهها الرئيس السوري للرئيس الحريري.
ثلاثة عناوين رئيسية إذاً سلطت مقابلة خدام الضوء عليها: أولوية التحقيق والحقيقة، مستوى القرار في سوريا وآلياته، وشبكة المحرّضين في لبنان. إلا أن النتائج التي ترتبت على الكلام ـ الزلزال هذا، لم تكن قليلة حتى الآن.
النتيجة الأولى، هي أن التحقيق الدوليّ استأنف تحركه بسرعة، ولم ينتظر عودة ميليس إلى بيروت وتسلم براميرتس مهماته، فقررت لجنة التحقيق الدولية الاستماع إلى الرئيس السوري بشار الأسد وإلى وزير خارجيته فاروق الشرع الذي “ثرثر” أكثر من اللازم ومضى في سعيه إلى تضليل التحقيق خاصة عندما ادعى أن الرئيس الشهيد غطّى سيره بالتمديد للحود بالحديث عن ضغوط سورية تعرض لها، فإذا بخدام يأتي بوقائع تلك التهديدات.
إعادة استجواب لحود
النتيجة الثانية، هي أن لحود الذي استنفره ولي أمره، باعتباره جزءاً عضوياً من النظام الأمني البعثي اللبناني ـ السوري المشترك، برز مجدداً بصفته عنوان المشكلة. غير أن لحود في مسارعته الى نجدة “أخيه” أدلى بإفادات مزوّرة موثّقة عن مرحلة تاريخية تمتد منذ العام 1998. وإذا كانت لجنة التحقيق الدولية استمعت إليه في فترة سابقة ولم ترِد إفادته في تقرير ميليس في 13 كانون الأول الماضي، فإن من حق اللجنة، إن لم يكن من واجبها، إعادة استجوابه، بناءً على ما قاله خدام، لكن بناء على أقواله المزوّرة أساساً.
إستدعاء المحرّضين إلى التحقيق وتوقيف الـ19
والنتيجة الثالثة، هي أن إعادة رسم مشهد التحريض من قبل الرجل الثاني السابق في النظام السوري، تعيد إبراز دور الفريق السوري في تشكيل مناخ الجريمة الإرهابية التي أودت بحياة الرئيس الحريري ورفاقه. ومن المفترض أن يمثُل كل من أتى خدام على ذكره أمام التحقيق الدولي، لا سيما أن هؤلاء “تنشّطوا” في الآونة الأخيرة، وهناك من يقول إنهم سُلّحوا سورياً، وذلك في سياق “الهجوم المضاد” الذي جرت المباشرة به.
أما النتيجة الرابعة، فهي أن من جرى توقيفه بصفة مشتبه به، يجب أن يبقى موقوفاً، أي أن “إفادة” خدام تشكل مسوّغاً بمفعول رجعي للتوقيف، لا سيما بالنسبة إلى الضباط الأربعة.
والنتيجة الخامسة ـ المفترضة ـ هي أن تقرير ميليس الثاني الشهر الماضي، والذي تضمن إشارة واضحة إلى وجود 19 مشتبهاً، لبنانيين وسوريين، لا بد أن يوضع موضع التنفيذ، أي أن يصار إلى طلب توقيف هؤلاء وبأسرع وقت ممكن.
وهذه النتائج، المتحقِّق منها والمفتَرض تحقُّقه، تقود هي نفسها إلى عدد آخر من الخلاصات. فعندما يقول عبد الحليم خدام ما قاله، فهو قاله من موقع العارف بالأمور ولم يمضِ على مغادرته سوريا سوى نحو ستة أشهر، من موقع المرافق للرئيس الراحل حافظ الأسد أي بما لا يدع لقيادة النظام الحق في الطعن بشرعيته ما لم تكن في صدد الطعن في شرعية الرئيس الراحل. وإلى ذلك يضاف أن تقويم خدام، أي تقويم السياسة السورية داخلياً وخارجياً، هو شأن سوري بالدرجة الأولى، ولا بد أن يكون موضع تفكّر على مستوى الشعب السوري ونخبه. لكن اللبنانيين وإن كانوا معنيين بمراجعة ما لحقهم من السياسة السورية التي نفذها خدام في لبنان، فليس لهم أن يدخلوا ـ الآن على الأقل ـ في تصفية حسابات مع النائب السابق للرئيس السوري الذي فتح بكلامه الأخير معركة داخل النظام و”على” النظام، وذلك كي لا يلعبوا لعبة الانحياز إلى طرف في النظام، لا سيما أن ثمة شريحة واسعة تنظر إلى “القيادة” وخدام بوصفهما وجهين لنظام واحد.
إن ما قاله خدام مكثفاً ليس مجرد معلومات ووقائع تفيد التحقيق الدولي، بل هو قال إن الأمر في سوريا لا يختص بأفراد بل هو يتعلق بـ”نظام” مترابط الحلقات. وينبغي ألا يمر هذا الكلام مرور الكرام.
عون و”جديد” خدام
فمن استمع الى العماد ميشال عون في اليومين الماضيين يصاب بدهشة. فهو من جهة اعتبر أن ليس ثمة جديد يختلف عما جاء في تقرير ميليس، في ما قاله خدام، ومن جهة ثانية طالب خدام بما يشبه تقديم الحساب عن المرحلة التي كان فيها مسؤولاً عن الملف اللبناني أو منفذاً لسياسة النظام السوري اللبنانية. وقبل ذلك بمدة، كان الجنرال لخص المشكلة مع سوريا بأنها مشكلة مع أفراد، وقبلها كان سارع إلى اعتبار أن “المسألة السورية باتت وراءنا”.
بعد ما قاله خدام من داخل النظام في دمشق، لا يحق للجنرال ألا يستنتج ولا يحق له أن يبقى مراوحاً عند النقطة التي بدأ منها لدى عودته إلى لبنان، وذلك فيما يُعلن أنه مؤيد للحقيقة. فهل يعقل ألا “يخطئ” الجنرال مع النظام السوري مرة واحدة!؟.
“حزب الله”
الأمر نفسه ينطبق على “حزب الله”. وبكلام آخر، لا بد أن يشكل هذا التطور سبباً للتقارب بين “حزب الله” وقوى معركة تثبيت الاستقلال اللبناني عن سوريا وتحصينه. فهل يصدق “حزب الله” أن خدام خائن ومدفوع من قبل الغرب وقوى لبنانية؟ فإذا هو صدق فمعنى ذلك أن كل ما روّجته دمشق في الآونة الأخيرة عن “تسوية” أو “صفقة” بينها وبين “النظام العالمي” غير صحيح، وعليه أن يستنتج تالياً. وأي معركة سياسية يخوض الحزب إذا كان النظام السوري على ما وصفه خدام؟ ألا يجعله كلام الرجل الثاني يشك قليلاً؟
إن ما يجري التشديد عليه في ما سبق ذكره، هو أمران رئيسيان: الأول يتصل بتحقيق تفاهم وطني على الفصل السياسي بين المسار الاستقلالي والديموقراطي في لبنان وبين العلاقة بسوريا التي لا يمكن لها أن تستقيم قبل إعلان الحقيقة. والأمر الثاني تحقيق تفاهم على رحيل لحود، إذ يجب أن يقتنع عون، خاصة بعد ما أعلنه لحود في اليومين الماضيين، بأن “هذا” الرئيس رجعُ صدى صوت النظام في سوريا. ويجب أن يقتنع “حزب الله” بأن ادعاء لحود البطولة لصالح المقاومة، هو غير صحيح حدثياً أولاً ولا يساوي تفاهمه ـ الحزب ـ مع الآخرين في كل الأحوال.
وتبقى أخيراً الإشارة إلى ما تكرر في الأيام الماضية: النظام السوري سيزداد شراسة. هذا صحيح، ويتطلب بقاء قوى 14 آذار في “الهجوم السياسي”، ويتطلب الإبقاء على الاستنفار الشعبي… ويتطلب الانتباه الى الوضع الأمني من جانب الحكومة والقيادة العسكرية ـ الأمنية على حد سواء.