الحزب لم يغلق الباب أمام أي جهة تتقدم للتعاون معه بما يخدم مصلحة البلاد
ضمن مشروع التطوير والتحديث الذي تنتهجه سوريا، كان لابد أن يعيد حزب البعث قراءته لنفسه في سعي فكري ارتبط بالمستجدات المحلية، والإقليمية، والعالمية وعلى كافة الأصعدة التي أفرزتها تلك المستجدات، فكان أن تشكلت عدة لجان من داخل الحزب أنيط بها النظر وتقديم المقترحات الفكرية التي من شأنها تطويره باتجاه استعياب تلك المستجدات والعمل ضمنها
وفي هذا اللقاء مع الأستاذ عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية شمل الحوار كل مايتعلق بتطوير فكر البعث، أسبابه، وموجباته
شكلت القيادة القطرية مجموعات عمل لدراسة تطوير فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، هل يتناول التطوير عقبات الحزب وبأي اتجاه؟
بعد أكثر من أربعين عاماً على تولي الحزب قيادة سوريا، ولاسيما بعد التطورات الكبيرة التي حدثت في المجتمع، ثقافياً واجتماعياً، وسياسياً، وفي ضوء التطورات الكبرى، الدولية السياسية والثقافية والأمنية والعلمية، وانعكاساتها على الأمة العربية وسوريا منها، تبرز الحاجة إلى المراجعة والتطوير لتتمكن سوريا من متابعة مسيرة نهوضها، وتوفير الإمكانات لتجنب سلبيات التطورات الكبرى في العالم، والإفادة من إيجابياتها، فالتطور أو التطوير حالة طبيعية، وشرط أساسي للنهوض والتقدم، أما الجمود فهو الاستثناء، ويؤدي إلى الشلل والضعف
التطوير يتناول فكر الحزب وليس عقيدته، وهنا يجب التمييز بين العقيدة والفكر، فالعقيدة هي ما يرتبط بالمصير والهوية، ويعبّر عنها ما ورد في المبادئ الأساسية للحزب، أما الفكر فهو ما ينتجه العقل لتأمين متطلبات مرحلة، وبالتالي فهو متحرك بتحرك العوامل والمكونات في كل مرحلة
كان للحركة التصحيحية فكرها الذي ميزها عن الفكر الذي ساد الحزب بعد ثورة آذار عام 1963، فما هي الأسس التي قام بها فكر الحزب وتأسس نهجه المرحلي؟ وهل مازال هذا الفكر متلائماً مع المرحلة الراهنة؟
بعد تسلّم حزب البعث العربي الاشتراكي قيادة سوريا في 8 آذار 1963 وخاصة بعد حركة شباط 1966، سادت في الحزب نظرية تدعو إلى انفراد الحزب في قيادة العمل السياسي، وفي تطوير البلاد باعتباره حزباً لثورة، مما أدى إلى وحدانية الحزب في الساحة السياسية، وكان لذلك إسقاطاته في حياة البلاد العامة انعكست على الأفراد وعلى المجتمع
بعد نكسة حزيران 1967 نشأت أزمة في الحزب حول كيفية مواجهة الاحتلال والعدوان، وبرز تياران
الأول كانت تقوده القيادة القطرية يدعو إلى المزيد من التشدد في السياسات الداخلية والعربية والدولية، والتيار الآخر كان يقوده الرئيس حافظ الأسد اعتبر أن العدوان استهدف الوطن، وبالتالي فإن الحاجة إلى تعزيز الوحدة الوطنية والانفتاح على قوى المجتمع السياسية والثقافية والاقتصادية وإعادة بناء الجبهة الداخلية أمور أساسية في مواجهة العدوان، كما اعتبر هذا التيار أن المرحلة مرحلة تحرر وطني
فالحركة التصحيحية حددت هوية المرحلة، وبالتالي حددت متطلباتها جبهة داخلية قوية ومتماسكة، وتضامن عربي، وانفتاح دولي
وفي المجال الداخلي أطلق الحزب آنذاك مايلي
1- التعددية الحزبية، والاعتراف بالأحزاب التي كانت قائمة آنذاك، وأقام معها تحالفاً وطنياً في الجبهة الوطنية التقدمية، شاركت الحزب في الحكم
2- وضع دستور دائم للبلاد
3- إجراء انتخابات لمجلس الشعب
4- إقرار التعددية الاقتصادية، والسير خطوات واسعة في مجال بناء البنية التحتية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي مجال الاهتمام بالتعليم والرعاية الصحية
ولكن من الناحية الموضوعية تباطأ تنفيذ بعض الأهداف التي أطلقها الحزب بعد حرب تشرين عام 1973، ثم تعثّر في مراحل تالية بسبب عوامل داخلية وخارجية أعاقت تحقيق النهج الذي أطلقه الحزب بعد الحركة التصحيحية، ومن هذه العوائق بروز ظواهر سلبية في السلوكية في بعض المواقع، مستغلة انشغال قيادة الحزب والدولة بمواجهة العوامل الخارجية ذات التأثير المباشر على سوريا، ومنها الحرب الأهلية في لبنان، وتوتر العلاقات مع مصر بسبب اتفاقياتها مع إسرائيل، وكذلك توتر العلاقات توتراً شديداً مع العراق، بالإضافة إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والحرب العراقية ـ الإيرانية، إلى جانب الأحداث الدامية التي قام بها الإخوان المسلمون بين عامي 1969-1982 وانعكاسها المباشر على السياسات الداخلية
كان لتلك المعوّقات، سواء الداخلية منها أو الخارجية، تأثيراتها على الوضع العام في الدولة
وبالمحصلة فإن سمة المرحلة مازالت مرحلة تحرر وطني، ولكن نهج التعامل معها لابد من مراجعته بسبب التغيير الهائل في العوامل المكونة للأوضاع العربية والدولية والداخلية
المراجعة ليست في الأهداف، وإنما في الفكر الذي يجب أن يبنى عليه نهج تحقيق هذه الأهداف
الحزب أصدر قانوناً للانتخابات عام 1972، وجرت الانتخابات، وكانت التجربة الأولى والثانية والثالثة تقوم على القوائم المغلقة لأحزاب الجبهة
الهدف من الانتخابات مشاركة الشعب في بناء المؤسسات الدستورية، ولكن التطبيق العملي للعملية الانتخابية لم يتلاءم مع هدف القيادة، التي قامت آنذاك بدراسة الوضع، وقررت أن تكون قوائم الجبهة مفتوحة بنسبة الثلث للمرشحين من خارج الجبهة، وكان الهدف من ذلك تطوير الحياة السياسية، وفتح الباب أمام دخول عناصر جديدة للحياة السياسية، ولكن بالتطبيق العملي فإن الشريحة التي كانت تتمنى القيادة وصولها إلى مجلس الشعب لم تصل، لأن المتمولين استطاعوا عن طريق المال أن يحصلوا على معظم المقاعد
هذا الأمر يترك سؤالاً لدى القيادة حول كيفية ضمان تحقيق انتخابات بالصورة الأكثر سلامة، وهذا ما يفترض أن تجيب عنه مسألة التطوير
والخلاصة إن عوامل أساسية طرأت خلال الثلاثين عاماً الماضية تتطلب المراجعة، وبالتالي وضع الأساس الفكري لهذه المراجعة في ضوء مصلحة الأمة ومصلحة سوريا
هل صحيح ما يشاع أن حزب البعث العربي الاشتراكي سيتحوّل إلى حزب سوري؟
هذا الأمر غير وارد لا من قريب ولا من بعيد، لأن التخلي عن البعد القومي للحزب هو التخلي عن الهوية والتخلي عن التاريخ وعن المستقبل، إن ما يناقش هو تطوير صيغة العمل في الحزب قومياً، بما يتلاءم مع متطلبات المرحلة الراهنة في المجال القومي
الحرية ركن أساسي من أركان حزب البعث العربي الاشتراكي، ولكن خلال مسيرة الحزب منذ الثامن من آذار، برزت ظواهر تتعارض مع هذا الركن الأساسي من مبادئ الحزب، فهل سيتناول التطوير مفهوم الحرية؟
الحرية حق من الحقوق الطبيعية للبشر، ويجب ألا يكون هناك قيد على الحرية إلا الحرية نفسها، بمعنى أن حرية الفرد تقف عند حرية الآخر، كما تقف عند حرية المجتمع، وفي غير هذا الفهم للحرية يتحول المجتمع إلى غابة، كما يتحول المجتمع الدولي إلى ساحة واسعة لصراع الأمم
والقانون الطبيعي الذي أعطى الحرية للفرد وللجماعة قيّد أيضاً حرية الفرد وحرية الجماعة كي لا تتصارع حريات الأفراد وحريات الجماعات
والقيود على الحرية بالإضافة إلى تلك التي تفرزها الحرية نفسها، هناك قيود أخرى تضعها الدولة في إطار القانون الطبيعي للحريات، وهي قيود طبيعية وأحياناً قيود تتعارض مع القانون الطبيعي للحرية
كما أن هناك قيوداً يفرضها المجتمع عبر قيمه وعاداته وتقاليده، وموروثاته، وأخرى تفرضها حاجة الفرد الاقتصادية وأخرى يضعها الدين وهكذا فالقيود متعددة بعضها صحي وبعضها تعسفي
وجواباً عن سؤالك، نعم وقعت بعض الممارسات الخاطئة ليس بسبب يرتبط بسياسة الحزب والدولة، وإنما بسبب خطأ إنساني من الفرد، أو بسبب الظروف القسرية الأمنية التي فرضت على البلاد لضمان حماية أمن المجتمع وأبنائه، أو بسبب ضعف آلية الرقابة والمحاسبة
ومن الطبيعي أن المراجعة ستتناول مفهوم الحرية انطلاقاً من حقوق المواطنين في حرية التفكير والتعبير والمشاركة بما لا يتعارض مع حرية الآخر ولا مع مصلحة المجتمع
أطلق الحزب نظرية الديمقراطية الشعبية، هل مازالت هذه النظرية صالحة؟
دعني أقول إن الديمقراطية حاجة وطنية لأنها الإطار الذي يتيح للفرد والجماعة ممارسة حرياتهم والمشاركة في اختيار مؤسساتهم الدستورية، كما أنها الإطار الذي يحقق التوازن بين السلطات، وخلاله تتحقق الرقابة على أداء الأجهزة التنفيذية في الحكومة مما يضمن سلامة العمل وحسن الأداء
أما تعبير الديمقراطية الشعبية فهو منقول عن دول المعسكر الاشتراكي سابقاً، الديمقراطية إطار للممارسة، وهذا الإطار ليس واحداً لدى جميع الشعوب، وإنما يرتبط بعوامل اقتصادية وسياسية وثقافية، ولذلك نرى أشكالاً متعددة للديمقراطية
الديمقراطية تتطلب وجود أحزاب، فكيف سيكون الوضع؟
نعم، الديمقراطية تتطلب وجود أحزاب وبرامج ومناخ، والقيادة تولي هذه المسألة اهتماماً كبيراً في مراجعة تطوير فكر الحزب
هناك أقاويل عن تخلي الحزب عن الاشتراكية، ما صحة ذلك؟
أود أن أشير إلى أن الحزب تبنى الاشتراكية كركن أساسي في مبادئه، ولكنه لم يضع نظرية اشتراكية
والاشتراكية هي نهج لتحقيق تقدّم المجتمع ونهوضه وتحقيق العدالة والمساواة ورفع مستوى معيشة الشعب وإيجاد فرص عمل وتوفير الرعاية الصحية والتعليم وتكافؤ الفرص
فالاشتراكية ليست صراعاً بين شرائح المجتمع، لاسيما في مرحلة التحرير الوطني التي تتطلب مستوى رفيعاً من الوحدة الوطنية لمجابهة العدوان وتحقيق التحرير والحفاظ على الاستقلال الوطني، فهي نظام يحقق التكافل الاجتماعي بين فئات المجتمع تضمنه الدولة، فهي بالتالي ليست مساواة الناس بالفقر، وإنما بإزالة الظلم ورفع مستوى المعيشة وصيانة كرامة الفرد وتوفير الفرص للحياة الكريمة والعمل على إزالة الفقر، وهي بالتالي وفرة في الإنتاج وعدالة في التوزيع
فالاشتراكية ليست مفهوماً مطلقاً، لأن المطلق هو المستحيل، وإنما هي مفهوم نسبي مرتبط بصورة أساسية بمتطلبات المجتمع وحاجاته بما في ذلك متطلبات الدفاع الوطني
والدولة هي المسؤولة عن توفير وتأمين متطلبات المجتمع واحتياجاته
هل الدولة بمواردها التي تعتمد على الموارد الطبيعية ونظام ضريبي متدرج مع الوضع الاقتصادي العام في البلاد قادرة على توفير المتطلبات؟
بالدراسة الواقعية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، نجد أن الموارد قاصرة عن الحدود للمتطلبات الأساسية، وإذا تمعّنا بمتوسط الدخل السنوي للفرد نجد الهوة العميقة بين الحدود الدنيا لاحتياجات المواطن وبين موارده وكذلك الهوة بين الحدود الدنيا لاحتياجات البلاد ومواردها
ليست المعالجة بإنهاء دور الدولة في الاقتصاد الوطني، وباتباع نظام اقتصاد السوق والذي أدى إلى كوارث اجتماعية، وإنما بإعادة النظر بمفاهيمنا الاقتصادية، ذلك أن هدف الاشتراكية تأمين متطلبات المجتمع واحتياجات البلاد
عندما نرى أن الموارد قاصرة عن الحدود الدنيا يجب البحث عن حلول توفر هذه الموارد، وهذا ما لجأت له الصين وهي أكبر دولة شيوعية عرفها التاريخ
والطريق إلى ذلك: توفير فرص الاستثمار في التنمية الاقتصادية وإطلاق إصلاح اقتصادي يؤدي إلى وفرة في الإنتاج وعدالة في التوزيع، مما يزيد موارد الدولة كما يساهم برفع المعدل السنوي لدخل الفرد
فالاشتراكية هي ضمان الحاجات الأساسية من عدل وصحة وفرص عمل، وليست جموداً يزيد الفقر انتشاراً والدولة ضعفاً، ويوسع الهوة بيننا وبين العدو المتربص، وبيننا وبين الدول الشقيقة ودول العالم كله
إن المقارنة بين متوسط دخل الفرد في إسرائيل ومتوسط دخل الفرد في سوريا، تدعو إلى القلق الذي لا يمكن إنهاؤه إلا برؤية جديدة وفهم جديد ثوري للاشتراكية، كما فعلت دول أخرى كالصين وفيتنام، وهي بلدان لا ينازع أحد في عقيدتها الاشتراكية، ولا يشك في قيادة هاتين الدولتين، ومعظم هؤلاء القادة من الذين عاصروا بناء النظام الشيوعي في كليهما
يتحدث البعض عن الحاجة إلى حوار وطني، ما هو رأيكم بذلك؟
أولاً يجب التمييز بين الحوار الوطني والحوار السياسي، يكون الحوار الوطني في بلد تتهدد وحدتها الوطنية، إما بالانقسام أو بحرب أهلية أو في ظل حرب أهلية، كالحوارات الوطنية التي جرت في لبنان، وكان آخرها مؤتمر الطائف، وأعتقد جازماً أن جميع السوريين متمسكون بوحدتهم الوطنية وليس هناك خلاف أو انقسام وطني
أما الحوار السياسي فيكون بين قوى سياسية أو شخصيات سياسية للاتفاق على برنامج سياسي يعملون على تنفيذه
والحزب لم يغلق الباب أمام أي جهة تتقدم للتعاون معه بما يخدم مصلحة البلاد، وفي إطار المسلمات الوطنية الأساسية التي تبناها الحزب
هناك من يطالب بإلغاء مادة في الدستور تنص على مبدأ قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي للمجتمع والدولة، فهل ستتناول عملية التطوير هذا المبدأ؟
يجب أن نميز بين عملية تطوير الحزب والدولة والمجتمع التي هي حاجة وطنية ومن حق كل مواطن أن يساهم في عملية التطوير وإبداء وجهات نظره، وبين عملية تغيير النظام واستبداله بنظام جديد
الحالة الأولى كما قلت حاجة وطنية أكد عليها الرئيس بشار الأسد، كما أكدت عليها قيادة الحزب، وتعمل جاهدة لتحقيقها آخذة بالاعتبار كل العوامل الموضوعية التي تتطلبها عملية التطوير في المجالات كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، وأعتقد أنه من المفيد أن تتناول عملية التطوير مساهمة التيارات والقوى السياسية في الوطن العربي وفي سوريا في مؤتمرات الحزب كمراقبين، وهذا يغني النقاش ويزيد الرؤية وضوحاً
أما الحالة الثانية التي تدعو إلى تغيير النظام واستبداله، فإن الذين يطرحونها أحد اثنين: إما بسيط لا يدرك خطورة ذلك على مستقبل البلاد وأمنها واستقرارها ولا يدري ما يمكن أن يحدث بعد ذلك، وأما الثاني فهو يعرف النتائج الخطيرة ويريدها ويسعى إليها لأسباب لا تتعلق بمصالح البلاد ولكنها تفيد المشاريع الخارجية من جهة، ومن جهة ثانية إسرائيل، فتزول من أمامها الدولة التي حملت عبء مقاومة المشروع الصهيوني، ورغم كل الظروف الصعبة بقيت متماسكة بثوابتها الوطنية والقومية