ماذا قال عبدالحليم خدام عبر العربية – أكبر سبق عربي إعلامي لعام 2005 حتي يجتمع البرلمان السوري ويتهم خدام بالسرقة والفساد طوال (4) عقود، ويطالب بمحاكمته بـ الخيانة العظمي ومصادرة ممتلكاته ووصفه بأبشع الأوصاف ! ثم تجتمع القيادة القومية لحزب البعث الاشتراكي فتقرر طرده من الحزب باعتباره خائناً للحزب والأمة .
تري ما جناية خدام هل أفشي أسراراً عسكرية هل نقل معلومات خطيرة ضد وطنه ! إنه انتقد النظام لعدم جديته في الإصلاح بسبب الفساد والمصالح الشخصية والتفرد بالسلطة، وحينما تعذر الإصلاح آثر الوطن علي النظام فاستقال. فهل في هذا الحديث- وبغض النظر عن صحته أو بطلانه- ما يستوجب الخيانة والمحاكمة !
ألا ننتقد جميعاً حكوماتنا ألا نتكلم عن تفشي الفساد والمحسوبيات ألا يعترف المسؤولون أنفهسم بذلك صراحة ألم يقل الشيخ صباح الأحمد إن الفساد في إحدي وزاراته لا تشيله البعران !
ما علاقة النقد بالخيانة والعمالة !
لا أدافع عن خدام ولا يعنيني كثيرا صحة اتهامه للنظام ولا اتهام النظام له، إنما يهمني جانب مهم في الحدث لم يسترع انتباه الكثيرين، إذ انشغلوا بالفعل وليس برد الفعل، فتساءلوا: لماذا حديث خدام الآن ولماذا انشق علي النظام ولماذا كانت الصحوة المتأخرة للضمير بعد (35) عاماً وكثيرون في لبنان فرحوا به باعتباره شهادة من أهلها تسند تقرير ميليس في تورط سوري محتمل. ومنهم من قال إنه رصاصة الرحمة أطلقها خدام علي نظام البعث،
وبعضهم استنكر حق خدام الذي أمضي 35 عاما مدافعا ومشاركاً للنظام أن يتحول ناقداً ومعارضاً ! وهناك من ترحم عليه إذ اعتبره في عداد المتوفين أو المنتحرين بعد حديثه.
لا يعنينا حديث خدام إلا بمقدار رد الفعل السوري عليه، إذ لم يتساءل أحد، كيف ساغ لبرلمان يفترض أنه الصفوة السياسية الممثلة للمجتمع والرقيبة علي أداء الحكومة أن يسكت علي الفساد الذي يتهم به خدام فيقرر الآن اتهامه بالخيانة لأنه انتقد النظام هل انتقاد النظام خيانة في معيار الفكر القومي ! إذن ماذا نقول عن المعارض الأمريكي نعوم تشومسكي المسكون بهوس المعارضة، إذ لم يترك موبقة إلا وألصقها بالإدارة الأمريكية ورئيسها ولم يترك عدواً لأمريكا من الطغاة الشيوعيين أو الإرهابيين إلا ودافع عنهم باعتبارهم ضحايا البطش الأمريكي ! لو كان نعوم مواطناً عربياً لدي النظم الثورية لأعدم علي الفور بالخيانة العظمي!!
وماذا نقول عن الأمريكيين الذين عارضوا الحرب علي العراق والذين كشفوا فضيحة سجن أبو غريب كل هؤلاء في مفاهيم نظمنا القومية- للوطنية خونة وعملاء!!
تري ما دلالات المشهد السوري لماذا تسارع النخبة السياسية والثقافية إلي اتهام المعارضين بالخيانة والتآمر ! ما أصل هذا الداء العضال في الجسم العربي القومي هي أسئلة يجب أن تستوقفنا منذ أن صك الشاعر القومي البعثي سلمان العيسي قصيدته في عبدالناصر من الخليج الثائر إلي المحيط الهادر… لبيك عبدالناصر من يخالف عبدالناصر فهو خائن ذلك مكمن الداء الخطير، إنه ثقافة التخوين ركيزة الفكر القومي العربي- الناصري والبعثي- وعلي امتداد نصف قرن التخوين هو السلاح الصارم الذي اعتمدته النظم الثورية العربية ضد خصومها السياسيين وزجت بهم في سجونها ومعتقلاتها ومارست أشد أنواع التعذيب وانتهكت كرامتهم واستباحت أعراضهم، بما لا يقاس بفضائح أبو غريب- وقد تم كل ذلك بتهمة التخوين فهم أعداء الشعب وعملاء الاستعمار و الطابور الخامس .
احتكار الوطنية الذي تبنته النظم القومية 50 عاماً هو الذي أضعف مناعة المواطن أمام التسلط القومي، كما أضعف مناعة الوطن أمام التدخل الخارجي. فهانت هزيمة الوطن في سبيل بقاء النظام تلك الأحادية السياسية في الوطنية كان لها فعل الإيدز في الإنسان طبقاً لوحيد عبدالمجيد، تلك الثقافة الشمولية الإقصائية هي التي أنتجت طغاة العرب ورسخت أسطورة البطل في ذاكرة العرب وجعلتهم يتقبلون الاستبداد ويهتفون بحياة المستبد ولو قادهم إلي الهلاك..
المهم أن يبقي القائد والنظام وكل ما فوق التراب تراب كما قال شاعرهم. تلك الثقافة البائسة أفرزت نبتاً شيطانياً كان له ثمار مرة في الأرض العربية، تمثلت إحداها في ظاهرة المثقف الاستئصالي النرجسي الذي يفرض وصايته علي زملائه المثقفين، وكان قمع المثقفين للمثقفين أشد وأنكي ولا أدل من دكتاتورية علي عقلة عرسان الذي استمر رئيساً لاتحاد كتاب العرب ربع قرن تلك الثقافة التخوينية هي التي جعلت بلال الحسن يؤلف كتاباً سماه ثقافة الاستسلام ليتهم كل من خالفه في منهجه الفكري بالتخوين والتآمر، انه كما يقول صالح بشير- جهالة الاستخوان وهي التي تدفع الأستاذ الكبير- هيكل عبر الجزيرة للتبرير والسكوت علي انتهاكات كرامة الإنسان وعمليات التعذيب في سجون الحكم الناصري فلا عجب إذ يبرر أنصار صدام- اليوم- جرائمه المتمثلة في المقابر الجماعية والإبادة البشرية بأن هؤلاء خونة وأعداء وعملاء.
منهج التخوين هو الذي يجعل مؤتمرات الفكر القومي- الإسلامي أسيرة للنظم الشمولية وتعيد انتاج ثقافة القمع والإقصاء والخنوع لحكم المستبد العربي وقبول الاحتلال العربي- العربي فتدعو لمقاومة الانتخابات في العراق لأنها تجري في ظل المحتل الأجنبي بينما تبارك الانتخابات المفبركة في ظل المستبد العربي وهي ثقافة حولاء لا تري في احتلال دولة عربية لجارتها وفرض وصايتها عليها عدواناً بينما تري في تخليص العراق من طاغية أذلهم واستباح كرامتهم إضعافاً للعرب وخدمة لإسرائيل!!
لماذا لا يكون في إزالة الخراج المتقيح مصدر قوة ومناعة للجسم العربي !
التخوين بضاعة قومية مغشوشة وآن لنا دفنها غير مأسوف عليها، وهي أحد إفرازات النظم الشمولية القومية التي قهرت الإنسان العربي وصورت له العالم تآمراً لتبرر تسلطها وفسادها ومناهضتها للإصلاح. لقد آن لنا أن نصحو من أوهام نظريات التآمر ووساوس الغزو الفكري للهوية والثقافة العربية، فهما لا تستحقان أن يحاربنا العالم من أجلهما طبقاً لكمال غبريال، وينبغي ألا نبقي أسري الميراث الاستعماري في نظرتنا للغرب كما يقول وحيد عبدالمجيد، علينا التخلص من أوهام الشعارات الثورية المضللة التي سادت فترة الستينيات وجعلتنا خارج التاريخ والعصر والحضارة.
إلي متي تستمر الدولة التسلطية تتحايل علي مآزقها الداخلية والخارجية وتتهم الخارج كذرائع لاستمرار الفساد والعجز ! لا أحد يفرط في وطنيته وهويته، لا أحد يتنكر لعروبته ولقوميته ولكن أية هوية وأية عروبة قومية منفتحة علي الآخرين، وعروبة مسالمة لا تخشي المساءلة وهوية عربية ليست أسيرة للتاريخ والنزعات التعصبية كما عبر عنها محمد جابر الأنصاري في سلسلة مقالاته الرائعة في الحياة.. نحن مع الناصرية ومعه في نقده البناء حين قال: التحرر الذي نادت به الناصرية كان ينبغي أن يكون تحريراً للمواطن والمجتمع من أجهزة السلطة وفسادها في المقام الأول، وألا يقتصر علي التحرر من الاستعمار الخارجي واستبدال تسلط داخلي بتسلط داخلي آخر لقد سقط ضحايا كثر علي مسار الدولة القومية هتفوا بالدماء أناشيد الفداء بينما كان حراس الفكر القومي للعرب هم الأصدقاء الحميميون لطغاتهم.