رسائل ووثائق بين الرئيس السوري حافظ الأسد والأميركي جورج بوش في نهاية الثمانينات، ساهمت في تحسين العلاقات بين دمشق وواشنطن بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي، حليف الأسد.
ومع غزو الرئيس العراقي صدام حسين للكويت في 2 أغسطس/آب 1990 تكثفت الرسائل والاتصالات السورية- الأميركية التي أفضت إلى مبادرة الجيشين السوري واللبناني للقضاء على “تمرد” الجنرال ميشال عون في 13 أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته و”تحييد” قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع.
تنشر “المجلة” اليوم، الحلقة الأولى عن تحسن العلاقات السورية- الأميركية. والثانية غدا، عن نفي عون وتحييد جعجع بضوء أخضر أميركي:
كان الرئيس العراقي صدام حسين، الخارج من حربه مع إيران، يقدم الدعم لقائد الجيش اللبناني ميشال عون الذي تصاعد في “حرب التحرير” عندما كانت الحكومة منقسمة بين ميشال عون وسليم الحص، عدو الجنرال.
وكان الرئيس السوري حافظ الأسد، بعد إنجاز اتفاق الطائف في السعودية عام 1989، ينتظر الفرصة للقضاء على “التمرد” بسلاح قواته والجيش اللبناني ودق إسفين بين قطبين مسيحيين: “الجنرال” عون، و”الحكيم” جعجع.
وكان الرئيس إلياس الهراوي الذي أصبح رئيسا بعد اغتيال رينيه معوض، يعادي عون ويؤمن بإمكانية استيعاب جعجع المدعوم أميركيا.
في منتصف عام 1990، كانت الأمور تبدو أنها تميل لصالح صدام وحلفائه. خرج “منتصرا” في حربه ضد إيران حليفة الأسد الذي زاد قلقه من خسارة الاتحاد السوفياتي وتفكك الدول التي تدور في فلكه، في الساحة الدولية.
جاء غزو صدام للكويت في الثاني من أغسطس/آب 1990، ليقلب المعادلات ويخلق فرصة نادرة للأسد ليحشر خصمه “البعثي” في بغداد، وينقض على خصمه الأول في بيروت، عون، وينفيه إلى باريس ثم يكبل لاحقا خصمه الثاني، جعجع، ويذهب به إلى السجن، ويخرج من رياح انهيار الكتلة الشرقية- “السوفياتية”. وما كان هذا ليتم لولا صفقة بين الأسد والرئيس الأميركي جورج بوش وقبول من الدول العربية الوازنة.
تكشف سلسلة رسائل سرية، بين الأسد وبوش ومحاضر اجتماعات ووثائق حصلت “المجلة” على نصها وتنشر كاملة للمرة الأولى، تدرّج الموقف الأميركي في دعم مطالب الأسد من اعتماد “الطريقة السلمية” لإنهاء عون و”تنحيه” وصولا إلى الحصول على “الضوء الأخضر” للجيش اللبناني بدعم سوري للقضاء عليه عسكريا في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990، خلافا لموقف فرنسا الداعمة لعون. كما تكشف استمرار واشنطن في دعم جعجع رغم إصرار دمشق على تحييده وصولا إلى سجنه في أبريل/نيسان 1994.
نفي عون وتكبيل جعجع، “هديتان” من بوش إلى الأسد للتخلص من “الجنرال المتمرد”، و”الحكيم المتلاعب”، جاءتا بالتوازي مع قرار الرئيس السوري، بالمشاركة في التحالف الدولي العربي لإخراج قوات صدام من الكويت خلال لقائه الرئيس بوش في جنيف يوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1990، إضافة إلى المساهمة في صوغ تفاهمات مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 1991. قسم من بعض هذه الرسائل نشر سابقا، لكن “المجلة” تنشر نصوص الرسائل لمواكبة “الرقصة” الأميركية- السورية، دون الخوض في تفاصيل التحالفات والتقلبات اللبنانية والعربية عشية غزو الكويت وغداته.
فيما كان لبنان غارقا في الحرب الأهلية وتقيم فيه القوات السورية منذ 1976، عين الرئيس أمين الجميل عام 1984، عون قائدا للجيش الذي اصطدم بـ”القوات اللبنانية” سنة 1990. ولدى انتهاء ولايته في سبتمير/أيلول 1988، أقال الجميل حكومة سليم الحص وشكل حكومة عسكرية برئاسة عون بعد انسداد أفق انتخاب رئيس جديد. أمام هذا، باتت في لبنان، حكومة في بيروت الشرقية للمسيحيين، وثانية في الغربية للمسلمين. وفي 14 مارس/آذار، أعلن عون “حرب التحرير” لإخراج القوات السورية، وانتقد بكلمات قاسية الرئيس الأسد، وعاد بعض التنسيق مع “القوات” وجعجع.
في أكتوبر/تشرين الأول 1989 أقر في لبنان “اتفاق الطائف” الذي حصل برعاية سورية– سعودية ودعم أميركي، وجرّد رئاسة الجمهورية، المنصب المسيحي الماروني الأول، من صلاحياتها التنفيذية، وأناطها بمجلس الوزراء مجتمعا ورئيسه السني، فعاد الخلاف بين عون وجعجع.
وبعد “اتفاق الطائف”، واغتيال رينيه معوض انتخب إلياس الهراوي رئيسا، فأصبح عون العقبة أمام المرحلة التالية لتنفيذ اتفاق الطائف، واعتبر “متمردا على الشرعية” إلى أن قضي عليه في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990، أي بعد غزو الكويت وقبل حرب الخليج. كيف حصلت سوريا على “الضوء الأخضر”؟ وما الفرق بين عون وجعجع؟ وما الفرق بين موقفي واشنطن وباريس؟
بوش للأسد: عون “عقبة” وحلها سلمي
في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1989، بعث بوش عبر صديقه فيرنان وولترز إلى الأسد رسالة لفتح الحوار بين البلدين، هذا نصها: “عزيزي السيد الرئيس… أعتقد أن الوقت قد حان لنا، لكي نتصل، بصورة أكثر مباشرة. اسمحوا لي، سيادة الرئيس، أن أوسع فكرة العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة. لقد كانت هناك أيضا أوقات تتسم بالمرارة وتبادل الاتهامات. آمل أن يكون الطرفان قد تعلما من الماضي، وأن يستطيعا أن يعملا بصورة أفضل”.
وفي وقت كان الأسد قلقا من خسارة حليفه، الاتحاد السوفياتي، قال له بوش: “العالم الذي نعيش فيه يتغير بسرعة، وكزعماء ينبغي لنا أن نعالج الحاضر، ولكن نتطلع إلى المستقبل. أعتقد أن طريقا ما يمكن تلمسه نحو علاقة سورية- أميركية أفضل. إنني راغب لأن أسلك ذلك الطريق إذا كنتم ستسلكونه. تكفي خطوة واحدة منكم، وأنا سوف أتصل شخصيا… أدرك، سيادة الرئيس، أن هناك بعض الخلافات العميقة جدا بيننا، ولكن بالصبر والنية الحسنة يمكننا تضييق فجوة هذه الخلافات، بل وتجاوزها… المخلص لكم، جورج بوش”.
موقف باريس من عون، كان أكثر وضوحا، إذ زار المبعوث الفرنسي فرانسوا شير دمشق في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، ونقل رسالة من الرئيس فرانسوا ميتران للأسد بأن عون “عقبة في لبنان” والحكومة الفرنسية تدعم “الاستمرار في اتباع الوسائل السلمية لإقناع عون بالتخلي عن مواقفه”.
رسالة أميركية: سفك الدماء يضر الهراوي
بعد توقيع “اتفاق الطائف” في 30 سبتمبر/أيلول وإقراره بقانون في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1989، أبلغ وزير الخارجية فاروق الشرع السفير الأميركي في دمشق إدوارد دجيرجيان في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، أن عون “متمرد ومن حق الدولة التعامل معه على هذا الأساس، وأن عرقلة جهود الدولة في توجهها لإنهاء تمرده يعني استمرار الأزمة والنزيف”.
رد السفير الأميركي: “اللجوء إلى القوة سيضر بالرئيس الهراوي كرئيس للوفاق الوطني، كما يضر به إذا انتقل إلى قصر بعبدا بعد سفك الدماء لأنه سيقلل من قدرته على تنفيذ اتفاق الطائف، لذلك فإن حكومتي تريد استخدام كل الوسائل السياسية لحل مشكلة عون”. وأضاف: “لدي تعليمات أن أكرر بقوة دعوة حكومتي لسوريا بأن تمتنع عن استخدام القوة العسكرية في لبنان”. وعلّق الشرع بأن عون “متمرد وليس جزءا من الوفاق الوطني، هو ضابط في الجيش خرج على الشرعية، أما الوفاق فقد أقامه المجلس النيابي اللبناني”.
الأسد لبوش: يجب إزاحته بكل الوسائل
مع اقتراب موعد قمة مالطة بين الرئيسين الأميركي بوش والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف يومي 2 و3 ديسمبر/كانون الأول، بعد أسابيع قليلة من سقوط جدار برلين وإعلان نهاية الحرب الباردة، أبدى الأميركيون تفهما لموقف سوريا والحكومة اللبنانية حول دقة عامل الزمن، وقالوا إن بوش “استجابة لطلب الهراوي سيبحث هذا الموضوع مع غورباتشوف في مالطة”.
شجعت دمشق هذا الاتجاه، وطالبت بـ”ضرورة أن يكون البيان الصادر عن غورباتشوف وبوش حول لبنان واضحا جدا، بحيث يتضمن البيان إدانة قوية لسلوك الجنرال عون ومواقفه وأن يتضمن دعما قويا للسلطة الشرعية الجديدة حتى يفهم عون أن عليه الانصياع للسلطة الشرعية الجديدة في لبنان ويتنحى جانبا”، حسب برقية رسمية سورية. ونصت: “صدور مثل هذا البيان الواضح عن غورباتشوف وبوش يساعد كثيرا في التغلب على العقبة الرئيسة، الجنرال عون، بالوسائل السلمية”.
في 1 ديسمبر/كانون الأول 1989، بعث الأسد رسالة إلى بوش، هذا نصها: “في إطار التنسيق والتبادل المستمر للآراء… أصبح واضحا للجميع أن عون هو العقبة الرئيسة في طريق تعزيز السلطة الشرعية الجديدة واستعادة وحدة لبنان وتنفيذ اتفاق الطائف. الشرعية اللبنانية واللجنة الثلاثية أكدتا أن عون هو العقبة الرئيسة ويجب إزاحته بكل الوسائل المتاحة”.
بوش قبل لقائه غورباتشوف: عون عقبة أعمل على التغلب عليها
وفي 1 ديسمبر/كانون الأول 1989 أيضا، وصلت رسالة من بوش إلى الأسد، هذا نصها: “عزيزي السيد الرئيس، أود أن أشارككم بعض أفكاري حول الوضع في لبنان بينما أستعد للتوجه إلى مالطة بروح رسالتي السابقة لكم… أتى اتفاق الطائف للبنان بأمل حقيقي في الوفاق الوطني والسلام والوحدة، ولن يتمكن معارضوه من إيقاف هذا التطور التاريخي بأعمال مثل قتل رينيه معوض (في نوفمبر/تشرين الثاني 1989).
أقف مع رئيس لبنان الجديد في جهوده لتوحيد شعبه وبداية عملية الشفاء، وقد دعوت جميع اللبنانيين لدعمه، يبقى الجنرال عون العقبة التي أعمل على التغلب عليها، إنني مقتنع يا سيادة الرئيس بأن الطريقة الوحيدة لفعل ذلك هي من خلال الحفاظ على حكومة الرئيس الهراوي وتقوية الحيوية والإجماع اللذين تتمتع بهما.
لقاء بين بوش وغورباتشوف في ديسمبر 1989
اللجوء إلى القوة العسكرية سيزيد من تقسيم لبنان ويسبب الضرر لعملية الوفاق الوطني، بشكل قد يتعذر إصلاحه، نحاول بجميع الوسائل التغلب على معارضة الجنرال عون ولكن القوة- خاصة إذا استخدمت من قبل سوريا- ستعطيه شرعية لا يستحقها وقوة إضافية. أحترم دعمكم لاتفاق الطائف، نستطيع معا تحقيق وعده بالسلام والوحدة لجميع الناس في لبنان، المزيد من سفك الدماء لن يساعد. وفي الختام، دعني أضِف أنني نقلت النقاط ذاتها إلى زميلنا الرئيس الهراوي لأنني أعتقد أنه يمثل أفضل أمل للبنان ليخرج من ظلمته. المخلص. جورج بوش”.
بالفعل، تبلغت دمشق لاحقا رسالة خطية، بأن الزعيمين أكدا “دعم الشرعية اللبنانية” دون إدانة عون.
الأسد لبوش: يتشدد… ولا بد من اتخاذ قرار
في 14 ديسمبر/كانون الأول 1989، بعث الأسد رسالة إلى بوش تناولت العلاقات الثنائية وعملية السلام وإيران وأوضاع المنطقة ولبنان، وهذا هو القسم المتعلق بلبنان في رسالة الأسد:
“… أما فيما يتعلق بلبنان، فأود أن أشير إلى ما حققه التعاون بين بلدينا والذي أسهم في نجاح مؤتمر الوفاق الوطني في الطائف وما تلاه من إقرار لوثيقة الوفاق وإجراء انتخابات رئاسية مرتين وقيام المؤسسات الدستورية الشرعية رغم صعوبة الظروف وتعقيداتها التي لا تخفى عليكم…
تعرفون أن سوريا مارست ضغوطا كبيرة على المسلمين اللبنانيين الذين يشكلون سبعين في المئة من سكان لبنان من أجل القبول بالمناصفة في الحكم وبرئيس ماروني، وحجتنا كانت تقوم على أن مثل هذه التنازلات من شأنها استعادة وحدة البلاد وتحقيق السلام…
مع اقتراب موعد قمة مالطة بين الرئيسين الأميركي جورج بوش والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف وإعلان نهاية الحرب الباردة، أبدى الأميركيون تفهما لموقف سوريا والحكومة اللبنانية، وقالوا إن بوش “استجابة لطلب الهراوي سيبحث هذا الموضوع مع غورباتشوف”
ولكن استمرار الوضع الراهن، وهو وضع تقسيمي، قد يجعل من المتعذر إقناع المسلمين ثانية بقبول وثيقة الطائف لأن التنازلات التي قدموها ما كانوا ليقدموها إذا لم تؤدِ إلى استعادة وحدة البلاد وتحقيق الأمن والسلام، لقد بدأت تبرز ظواهر نمو تيار يتعاظم بين المسلمين يحمل على وثيقة الطائف لأنها لم تعط المسلمين حقوقا تعادل حجمهم في البلاد وهم يطالبون بتحقيق ديمقراطية عددية…
وأشاطركم الرأي بأن عون يشكل عقبة أمام الوفاق الوطني وأمام مسيرة السلام لا بد من إزالتها، وأعتقد أنكم تقدرون معي أهمية عامل الوقت خشية انهيار كل ما أنجزه اللبنانيون على طريق السلام والوحدة الوطنية…
ومن اللافت للنظر أن تشدد عون وتصلبه ورفضه الانصياع للشرعية الدستورية ولأوامر الحكومة تصاعد إثر التصريحات التي صدرت عن الدول الكبرى المؤيدة للشرعية من جهة والضاغطة عليها من جهة أخرى حتى لا تتخذ الإجراءات التي يمكن أن تتخذها أي حكومة لو تعرضت لمثل ما تتعرض له الشرعية في لبنان…
أود أن أؤكد لكم أن استمرار التمرد العسكري سيجعل من الصعب احتواء الوضع في لبنان وأخشى ما أخشى أن يعود القتال بين الأطراف اللبنانية أشد عنفا وأكثر دمارا وضراوة، وعندئذ ستكون الخسائر المادية والبشرية والوطنية التي ستلحق باللبنانيين أعظم كثيرا من أية خسائر نتيجة تمكين الشرعية اللبنانية استخدام كل ما هو متاح أمامها لفرض سلطتها وبسط القانون…
في 14 ديسمبر/كانون الأول 1989، بعث الأسد برسالة إلى بوش تناولت العلاقات الثنائية وعملية السلام وإيران وأوضاع المنطقة ولبنان.
إنني مقتنع عزيزي السيد الرئيس أن موقفا أميركيا واضحا يدعو إلى دعم الشرعية لاستعادة وحدة البلاد وبسط سلطة الدولة وتحقيق الوفاق الوطني وتأييد حقها باتخاذ كل ما تراه من إجراءات لتحقيق ذلك، من شأنه أن يسهم إسهاما كبيرا في متابعة مسيرة الأمن والسلام والوفاق في لبنان…
إنني أشارككم الرأي في أن خيار استخدام القوة يجب أن لا يكون الخيار المفضل في إنهاء حالة التمرد، ولكن أمام فشل الخيارات الأخرى ستكون الموازنة بين استخدام هذا الخيار وبين انهيار الشرعية، وبالتالي انهيار كل شيء وعودة القتال والعنف والفوضى… وسيبقى الجميع عاجزا أمام سؤال يطرحه الرئيس الهراوي وحكومته علينا جميعا، كيف تزال عقبة عون وإلى متى يمكن أن نتحمل هذا الوضع، ونحن كدولة ننصح بعدم اللجوء إلى الإمكانيات التي منحنا إياها الدستور والقانون ووثيقة الوفاق الوطني لاستعادة وحدة البلاد وبسط سلطة الدولة وتطبيق القانون واحترام النظام العام؟
لا أخفيكم أن لدينا خشية جدية من إقدام الرئيس اللبناني على إعلان استقالته محملا من أسهموا في مساندة عون بشكل أو بآخر مسؤولية ما سيؤول إليه الوضع في بلده…
إنني أتمنى أن تقيّموا مليا الوضع الراهن في لبنان أخذا بالاعتبار العوامل التي أشرت إليها، مؤكدا لكم استعدادنا الكامل للتعاون من أجل تحقيق الأهداف التي أعلنا حرصنا نحن وأنتم على تحقيقها وهي تحقيق الوفاق الوطني وإقامة سلطة مركزية قوية وبسط الدولة سلطتها على كافة الأراضي اللبنانية، مشيرا إلى أن وثيقة الطائف التي أقرها المجلس النيابي وضعت على عاتق سوريا التزاما بتقديم كل مساعدة تطلبها الشرعية اللبنانية لبسط سلطتها، وقد وافقنا على هذا الالتزام أمام اللجنة العربية الثلاثية التي أبلغت الأطراف اللبنانية تلك الموافقة”.
مبعوث بوش للهراوي: عون أرعن… ولا نريد حمام دم
في 5 فبراير/شباط 1990، فإن نائب الرئيس عبدالحليم خدام، استقبل خليل الهراوي، وأنطوان شديد، مبعوثي الرئيس الهراوي، وسلماه ورقة من السفير الأميركي في دمشق إدوارد دجيرجيان، هذا نصها: “ردا على طلب الحكومة اللبنانية بأن نحدد موقف الولايات المتحدة بشأن إمكانية تدخل حكومة لبنان عسكريا لوقف حمام الدم في لبنان، صدرت إليّ التعليمات بأن أنقل إليكم ما يلي :
نحن ما فتئنا قلقين، إزاء فقدان الأرواح في لبنان، بأن الأفضلية التاريخية لدينا هي لإيجاد حل غير عسكري ولكننا ندرك تماما مدى مقاومة العماد عون لحل سلمي.
وما فتئنا أيضا قلقين بشأن التأثير العملي للتدخل الخارجي على مصداقية الرئيس الهراوي، ولا سيما إذا ما أصبحت سوريا ضالعة بطريقة رئيسة.
وفي الوقت ذاته نعتقد أن العماد عون يجب أن يذهب، وأن متابعته الرعناء لطموحه الشخصي قد سببت معاناة بشرية جسيمة وسوف تسبب إراقة دماء أكثر كثيرا إذا ما استمرت (…)
وردا على أسئلتكم بشأن انتقاد قرار الحكومة اللبنانية بعد أن يكون تدخلها حقيقة إذا ما تدخلت، نود أن ننقل التالي: “أفضليتنا التاريخية وهي إيجاد حل سلمي”.
خدام للهراوي: جعجع مثل عون
وعن المفاوضات مع جعجع، قالا لخدام: “الرئيس الهراوي يريد التعاون مع جعجع لأسباب كثيرة، فهو يريد شريكا مارونيا مقاتلا في الحكومة في وجه كل من السيدين نبيه بري ووليد جنبلاط، وهو يتأثر بالسيد جوني عبده ذي العلاقة الوثيقة بالقوات بالإضافة إلى أن عون ينازعه الشرعية بينما جعجع له سياسة أخرى ومفاهيم وهي بالتأكيد أكثر خطرا من مفاهيم عون”.
وعلق خدام: “إذا أجرينا مقارنة بين الاثنين فمن الصعب القبول بجعجع ورفض عون، ولكن مشكلة عون أنه وضع نفسه دائما في دائرة الرفض”. وحسب وثيقة، شجعهما خدام على الحوار مع جعجع “حتى تقطع الجسور بين عون وجعجع وبالتالي يسهل عندئذ إنهاء حالة عون دون مواجهة مع القوى المسيحية المسلحة كلها”.
رسالة جعجع للرئيس اللبناني تسلمها خدام من شديد وخليل الهراوي. وهذا نصها: “انطلاقا من إيماننا المشترك بلبنان السيد الحر المستقل والنهائي ومن تصميمنا الثابت على تحرير لبنان (…) وتجميع قدراتنا وإمكاناتنا لمواجهة المأزق الذي زج عون البلاد فيه وعرض حياة وأمن المسيحيين فيها للخطر… أوجه إلى فخامتكم هذه الرسالة لأبلغكم عن نيتي بالتعاون معكم معترفا بكم وبحكومتكم السلطة الشرعية في لبنان وبوثيقة الوفاق الوطني التي أقرها المجلس النيابي كوسيلة وحيدة لاستعادة السيادة الوطنية وإعادة بناء نظامنا السياسي وتحقيق السلام في لبنان”.
مبعوثا الرئيس اللبناني لعبدالحليم خدام: الهراوي يريد التعاون مع جعجع لأسباب كثيرة، فهو يريد شريكا مارونيا مقاتلا في الحكومة في وجه كل من السيدين نبيه بري ووليد جنبلاط
بعد قراءة شديد للرسالة، يقول خدام: “لا بأس، هل لك (للهراوي) بأن تكتب: قرأنا بإمعان رسالة جعجع لفخامة الرئيس، وتوصلنا إلى استنتاج واضح وهو أن جعجع يقف من سوريا موقف عون ويؤكد على نفس التعابير والأفكار التي يؤكد عليها عون ويركز على شعار التحرير الذي رفعه عون… من الطبيعي أن نلاحظ أيضا أن الفارق بين عون وجعجع هو ما ورد في الرسالة من كلام الأخير أي جعجع من اعتراف بالشرعية وهذا أمر لا نقلل منه ولكن بوجود الأفكار الأخرى التي أشرنا إليها سابقا في الرسالة لن يكون في هذا الاعتراف أي وزن مادي نظرا لأن جعجع ينطلق من عدائه لسوريا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون عدوا لسوريا وصديقا لأصدقاء سوريا في لبنان في وقت واحد وفي المقدمة لا يمكن أن يكون عدوا لسوريا وصديقا للشرعية التي تدعمها سوريا منذ اللحظة الأولى. ومن هنا فإننا نرى أن رافعي شعار التحرير الذين يعتبرون سوريا عدوهم إنما ينطلقون من المصالح الإسرائيلية”.
وفي اليوم التالي، بعث الهراوي رسالة إلى “أخي العزيز أبي جمال”، قال فيها: “قبلاتي وتحياتي، أبلغني خليل وشديد رسالتكم، وكان لي موقف صريح وواضح مع الوسطاء وطلبت إليهم أن يكون هناك بيان علني (من جعجع) يذاع من قبل القوات دون التلاعب. وكان الجواب، أن أرسلوا لي مشروع بيان أودعكم نسخة عنه قبل أن أوافق على إذاعته ربما تطلب تعديلا. وطلبت إليهم أن يذاع هذا البيان قبل أن يحصل أي تدخل وقبل أن أتقدم أنا شخصيا بطلب المساعدة العلنية بموجب نداء موجه للرئيس الأسد والشقيقة سوريا. وكان الجواب، أنهم على استعداد لذلك بعد أن أضمن لهم أن التدخل سيحصل. كذلك سألتهم عن موقفهم من حل الميليشيات، فكان الجواب: نحن على أتم الاستعداد لإنهاء دورنا الميليشياتي عندما يتخذ القرار في مجلس الوزراء أسوة بباقي الأفرقاء على الأرض. ما يشغل بالي أن هناك مفاوضات بينهم (القوات) وبين الجنرال عون، يمكن أن يؤدي تأخرنا، إلى تفاهم بينهما على وضع ما من ضمنه توسيع الوزارة وإعطاؤهم دورا ما في الحقل الأمني.
أختم بتوضيح سياسي بسيط: همي الوحيد الشرعية وتوحيد البلاد والعلاقة المؤسسة مع الشقيقة سوريا على الثقة المتبادلة خاصة مع الأخ الرئيس أبو باسل (الأسد). أشكر لكم تعاونكم آملا الحصول على الجواب السريع… وجهت لكم هذا الكتاب كي لا أزعج الأخ الرئيس”.
وفي 8 فبراير/شباط، أرسل جعجع إلى الهراوي رسالة معدلا الرسالة الأولى فاستبدل عبارة “آمالنا بتحرير الوطن” بعبارة “آمالنا الوطنية”، واستبدل عبارة: “وبوثيقة الوفاق الوطني التي أقرها المجلس النيابي كوسيلة وحيدة لاستعادة السيادة الوطنية وإعادة بناء نظامنا السياسي وتحقيق السلام في لبنان” بعبارة: “وبوثيقة الوفاق الوطني التي أقرها المجلس النيابي كمدخل لاستعادة السيادة الوطنية وإعادة بناء نظامنا السياسي وتحقيق السلام في لبنان”. ويقول خدام: “واضح أن جعجع يناور بهدف توفير مساعدة الدولة من أجل الصمود في وجه عون والاستمرار في قتاله حتى إنهائه ويحل محله في قيادة المناطق المسيحية التي يسيطر عليها وعون”.
الهراوي عن الأميركيين: يتفهمون موقفنا
في 5 أبريل/نيسان 1990، أبلغ خليل الهراوي نقلا عن الرئيس إلياس الهراوي، خدام بالموقف الأميركي:
“يفضلون الحلول السلمية ولكنهم يتفهمون تدخل الحكومة اللبنانية كون المعتدي عون قد عرقل وقاوم كل إمكانيات الحلول السلمية.
يؤمنون بوجوب رحيل عون وبأن متابعته العقيمة لطموحاته الشخصية قد تسببت حتى الآن بمآسٍ إنسانية كبيرة وسوف تتسبب في إراقة المزيد من الدماء إذا ما استمر”.
أبلغ خدام خليل الهراوي: “الموقف الأميركي لا يعنينا، يهمنا مزيد من الدعم للشرعية وإزالة أي إشكالات مستقبلية من أمامها، عون وجعجع ضد الشرعية وضد وثيقة الوفاق الوطني، المطلوب من جعجع أن يتخذ موقفا يعلن فيه الاعتراف بالشرعية وبوثيقة الوفاق الوطني التي أقرها المجلس النيابي، عندئذ يكون جعجع قد انتقل من موقع المعادي للشرعية لموقع الصداقة والعمل في ظلها، وهذا يجعله في موقع أصدقاء الشرعية وبالتالي يمكن أن نقدم المساعدة له بإنهاء حالة عون”.