«الولايات المتحدة تدعم بالكامل طلب لجنة التحقيق الدولية مقابلة الرئيس السوري بشار الأسد وستتابع هذه المسألة عن كثب. وإذا رفض الأسد طلب اللجنة، فسيضعه ذلك في مأزق صعب للغاية» (مسؤول أميركي رفيع) «النظام السوري يجد نفسه الآن محاصرا ومحشورا من كل جهة. المخرج الوحيد المتبقي أمامه هو التعاون الكامل مع لجنة التحقيق، بما في ذلك قبول مساءلة رئيسه الأسد، والتخلي عن أطماعه في لبنان» (مسؤول فرنسي رفيع)
هل كان النظام السوري يتوقع ان تصل الأمور مع لجنة التحقيق الدولية إلى هذه المرحلة الخطرة؟
لا يبدو ان الأمر كذلك.
فهو سبق ان وقع بالفعل في «خطيئة استراتيجية» ثانية، بعد خطيئته الأولى عام 2003 حين راهن على ان إغراق الاميركيين في المستنقع العراقي «سيجعلهم يهرولون إليه ويقدمون رأس لبنان مجددا» ككبش فداء على مذبحه، كما فعلوا عام 1989.
فهم خاطىء
إذ هو وصف في البداية على قرار مجلس الأمن الرقم 1559 بأنه «لا يستأهل الحبر الذي أريق على جنباته»، كما اعلن وزير الخارجية فاروق الشرع أواخر عام 2004 وانطلاقا على ما يبدو من هذا الفهم الخاطئ، وبرغم معرفة النظام بوجود صفقة كبرى أميركية – فرنسية خلفه، تم بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري التعامل مع لجنة التحقيق الدولية على انها، مثلها مثل 1559، لا تستأهل حبر القرار الدولي الذي شكلها، وهكذا، تعاطى طاقم الأسد معها على انها مجرد لعبة قضائية يكفي التذاكي فيها، عبر استخدام أدوات استخبارية كهسام هسام وزهير الصديق، كي يتداعى كل بيانها.
فما ان صدر قرار مجلس الأمن رقم 1644، حتى اعتقد النظام ان لعبته القضائية نجحت وتم إجهاض مهمة لجنة التحقيق. ومرة اخرى، لم ينتبه إلى ان هذه كانت المرة الاولى في تاريخ الامم المتحدة التي تضع فيها هذه الأخيرة يدها على جريمة اغتيال سياسي وتكرس لها جلسات ولجانا وقرارات. كما لم ينتبه (وهنا الاخطر) إلى ما كان يشك فيه هو نفسه كان صحيحا: لجنة التحقيق مسيسة بالفعل، وتقف وراءها قوى إقليمية ودولية عاتية تريد معاقبة النظام السوري على تخطيه للعديد من الخطوط الحمر، وعلى ممارسته ادوارا خطيرة لا يتحملها وضعه الاستراتيجي في العراق ولبنان وفلسطين.
الآن، استحقت فواتير الخطيئة الثانية وجاءت لحظة الحقيقة لدفع أثمانها الباهظة. وهي لحظة تجلت تظاهراتها الكاملة بعد الظهور المفاجئ من «لا مكان» (بالنسبة لدمشق) لعبد الحليم خدام نائب الرئيس السابق ورجل نظام حافظ الأسد الأول في لبنان، ليقوض كل هيكل التعاطي السوري مع لجنة التحقيق.
وسيكون لخدام ما يريد على الأرجح.
فمن المستبعد تماما ان يقدم سياسي محنك كخدام على إذاعة «البلاغ الرقم واحد» من باريس ضد النظام الذي ساهم هو إلى حد بعيد في بنائه، بدون ان يكون مستندا إلى «بلاغات» إقليمية ودولية ومحلية تسند انقلابه التاريخي الشامل هذا.
ثم ان بيان خدام قد أنهى عمليا عمل لجنة التحقيق الدولية حول اغتيال رفيق الحريري. فاللجنة، وبعد حصولها على «شاهد ملك» من هذا العيار الثقيل للغاية، لم تعد في حاجة إلى مزيد من الأدلة والمعطيات. شهادة خدام وحدها ستكون كافية لحمل الهيئة الدولية على الانتقال من التحقيق إلى التجريم، ومن الاشتباه إلى سوق الاتهامات.
وهذا، على أي حال، كان واضحا من إسراع اللجنة إلى القفز مباشرة إلى قصر الأسد ووزارة الشرع مطالبة بـ «الاستماع إلى شهادتهما»، بعد ثلاثة أيام فقط من إدلاء خدام بـ «شهادته التلفزيونية». وهو سيكون واضحا أكثر خلال الأيام القليلة المقبلة، حين ستطالب اللجنة باعتقال القادة الأمنيين السوريين الخمسة الذين حققت معهم في فيينا، وأيضا بجلب ماهر الأسد وآصف شوكت إلى التحقيق.
ماذا يعني كل ذلك؟
المعنى واضح: الأنشطة الإقليمية – الدولية تستخدم لجنة التحقيق لتضيق الخناق ليس فقط حول عنق الطاقم الحاكم في دمشق، بل أيضا حول رقبة النخبة الامنية – العسكرية الحاكمة، التي سيكون عليها قريبا الاختيار بين «الطاقم والنظام»، قبل ان تضطر لاحقا للاختيار بين «النظام والوطن»، كما فعل خدام، او على الأقل كما قال ان هذا سبب خطوته.
لقد وضع خدام نهاية غير سعيدة لتماسك هذه النخبة طيلة أكثر من 30 عاما. وسيكون على أعضاء هذه الأخيرة الآن ان «يحزروا» سريعا من الطرف الجديد الذي سينتصر في معركة «الصراع على سوريا»، قبل ان ينضموا إليه. وهذا الطرف، بالمناسبة، سيكون هو في الغالب هو ذاك الذي سيستند إلى القوى الإقليمية – الدولية العاتية ذاتها التي يستند إليها السيد خدام!
3 احتمالات
لكن، كيف سيتم من الآن فصاعدا الفرز السياسي في دمشق، بعد انقلاب خدام؟
هناك ثلاثة احتمالات:
> تطورات، أو بالأحرى صراعات، داخل الطاقم الحاكم.
> تطورات، او بالأحرى صراعات داخل النظام ككل.
> تحركات من خارج النظام لقلب النظام.
فلينت ليفريت، مدير شؤون الشرق الأوسط في مجلس الامن القومي الاميركي في الفترة بين 2002 و2003، كتب في 30 كتوبر 2005 حول الاحتمال الاول ما يلي: «بشار الأسد لا يملك سلطة والده. ولذا سيكون عليه تقاسم السلطة مع الآخرين أكثر بكثير ما فعل أبوه، خاصة شقيقه ماهر قائد الحرس الجمهوري (الذي يعتبر أفضل الوحدات السورية تجهيزا) وآصف شوكت مدير الاستخبارات العسكرية وزوجته (شقيقة بشار) بشرى التي تلعب ادوارا كبيرة من وراء الستار».
آصف وماهر متورطان، على ما تقول لجنة التحقيق، في عملية اغتيال الحريري. وقد ورد اسماهما في التقرير الأول لدتليف ميليس والذي لم ينشر إلا عبر الإنترنت لأسباب لا تزال غامضة. وإذا ما أصرت لجنة التحقيق والدول الغربية على سوريا كي تسلم هاتين الشخصيتين إلى لجنة قضائية دولية، فسيواجه بشار لحظة حقيقة خطيرة، لأن كلا من شوكت وماهر عكاز ومنافس له في آن. ومن جهة أخرى، طالما بقي الاثنان إلى جانبه، سيكون من الصعب على أي كان في بنية السلطة السورية شن انقلاب ناجح، الأمر الذي يجعلهما مناسبين للرئيس.
لكن، إلى متى، خاصة إذا ما غرق آصف وماهر، وقررا إغراق بشار وكل السفينة السورية معهما؟.
ما لم يجب بشار على هذا السؤال بنفسه، عبر التضحية بهذين الاثنين لإنقاذ نفسه، فسيكون على النظام ككل اتخاذ القرار ربما على حساب الرئيس نفسه. وهذا سيعني انشطار هذا النظام إلى قسمين: المؤسسة الأمنية التي يسيطر عليها الطاقم الحاكم (حتى الآن على الأقل) والمؤسسة العسكرية، أي الجيش الذي قد يقرر حينها انه يجب التضحية بكل هذا الطاقم لإنقاذ نفسه.
ونحن نتحدث هنا بالطبع عن انقلاب عسكري. وهو انقلاب ليس مستبعدا البتة، إذ تؤكد مصادر موثوقة انه جرت بالفعل محاولة انقلابية من هذا النوع قبل أسبوعين تم إجهاضها قبل التنفيذ ببرهة وجيزة. كما تؤكد دوائر سياسية لبنانية محايدة ان الولايات المتحدة ودولة عربية كبرى نافذة (هي السعودية) لهما علاقات سياسية ومالية مع العديد من الجنرالات السوريين.
لكن، وفي حال فشل أحد هذين الخيارين، يبقى الخيار الثالث: خلق حالة لا استقرار في سوريا، عبر إضعاف النظام و«إذلاله» على يد لجنة التحقيق، ثم تفجير كل القنابل الموقوتة في وجهه، من الأكراد إلى الاخوان المسلمين، مرورا بخدام ورفعت الأسد (المتمركز في شمال العراق كما يقال) وبقية قوى المعارضة السورية في الخارج.
>>>
هل يمكن ان يكون ثم بديل رابع ما، يتضمن تغيير سياسة الطاقم السوري الحاكم الحالي، بدل تغييره هو ذاته؟
لا يبدو ان هذا ما زال واردا. ليس بعد قنبلة خدام!