المحطة الثالثة فكانت وقفة مع بدايات “الجمهورية الثانية”. ففي 22 تشرين الثاني نوفمبر 1989 تطاير جسد الرئيس رينيه معوض مع ذكرى الاستقلال ووضع الاغتيال حداً لجمهوريته الوفاقية التي عاشت 17 يوماً. ويؤكد حاوي ان النائب بيار حلو رفض تولي الرئاسة وان المنافسة دارت آنذاك بين النائب الياس الهراوي والسيد جان عبيد وحسمت لمصلحة الاول. وهنا نص الحلقة السادسة:
عندما انتخب النائب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية اين كنتم في تلك المحطة؟
– لا أخفيك أننا اعتبرنا انتخاب رينيه معوض مكسباً مهماً للبنان وللحل. فالرجل تربطنا به صداقة. انه محاور دمث الاخلاق ووطني راغب فعلاً في خلاص لبنان. عقدت معه بعد انتخابه اكثر من لقاء، واحداً في زغرتا وآخر في بيروت وثالثاً لدى اصدقاء مشتركين، وتشاورنا في أمور عدة. في احد هذه اللقاءات اخبرته عن عملية تحضّر لاغتياله. صديق لحزبنا في الجيش اللبناني كُلِّف اغتياله. انه جندي كلفته اوساط على علاقة بالجيش اغتيال معوض فأخبرنا بالمهمة التي كلف القيام بها. أطلعت الرئيس معوض – رحمه الله – على التفاصيل فاستدعى مرافقه الشخصي العقيد طنوس معوض وكان الرفيق كريم مروة حاضراً ووضعنا خطة لمتابعة الموضوع.
قلت له: يا فخامة الرئيس، يخططون لاغتيالك قبل تشكيل الحكومة والوقاية هي في الاسراع في تشكيلها لأن المجتهد يقول ان الشرعية، في حال اغتيالك قبل تشكيل الحكومة، ستكون لميشال عون، اما بعد تشكيل الحكومة فستكون الشرعية لرئيس الحكومة السني وبالتالي يتراجع خطر اغتيالك. قال ان امور تشكيل الحكومة صارت شبه جاهزة ولديّ عقبة اريدك ان تساعدني في حلها لن اقولها الآن لكني سأرسل إليك مع صديق مشترك رسالة في شأنها. وفي اليوم الثاني اتصل بي الصديق المشترك وهو رينه كعدو معوض، عديل الوزير ايلي حبيقة، وقال ان الرئيس معوض طلب منه ان نتغدى معاً للتشاور في موضوع التمثيل المسيحي في الحكومة ولإيجاد اقتراح يتعلق بإيلي حبيقة. هل يكون في الحكومة ام يتولى مسؤولية جهاز امني او غرفة امنية مشتركة لمساعدة الحكم في تحقيق استقرار امني. كان موعد الغداء مقرراً في 23 تشرين الثاني نوفمبر 1989 ولكن قبل 24 ساعة وفي يوم الاستقلال اغتيل الرئيس معوض.
هل كان معوض ينوي حل عقدة عون بالقوة؟
– كان يريد حل عقدة عون بالحوار، اما اذا تعذر حلها بالحوار فيمكن عندئذ حلها بالوسائل العسكرية. كان ينوي تعيين اميل لحود قائدا للجيش والتعامل بحزم مع موضوع عودة الشرعية. كان يريد وضع عون امام خيارين: اما الالتحاق بالشرعية وله موقعه فيها واما الدخول في مواجهة مع الشرعية.
عندما انتشر خبر استشهاد الرئيس معوض سارعت الى منزل الرئيس حسين الحسيني رئيس مجلس النواب آنذاك وكان مجتمعاً بعدد من النواب في حالة من الغليان والحيرة. اختليت به في حضور الدكتور البير منصور وأبديت رأيي بضرورة اجراء انتخابات رئاسية في أسرع وقت، بغض النظر عن الشخص. واقترحت دعوة المجلس النيابي في اليوم التالي قبل تشييع الرئيس معوض على ان يجرى التشاور في شخص الرئيس في الليلة نفسها. قلت له: انا ذاهب الى دمشق لترتيب لقاء. فقال بلّغ ابو جمال عبدالحليم خدام انني قادم فور انتهاء الاجراءات الرسمية وسنلتقي هناك للبحث.
توجهت الى منزل الرئيس سليم الحص وتشاورت معه في الاتجاه نفسه وحضرت الاعلان رسمياً عن الاستشهاد. واضطر الحص الى إعادته ثلاث مرات لأنه كان يغالب دموعه. شددت من عزائمه وأبلغته ما تحدثت به مع الرئيس الحسيني وأنني ذاهب الى دمشق.
وصلت الى مكتب ابو جمال حيث كان لاستشهاد معوض وقع مؤلم. بحثنا في الملابسات، وسألني عن البديل من وجهة نظري فقلت: النائب بيار حلو. قال: لا نعرفه. فأجبت: هذا ليس المقياس. قال: بيار حلو لم يتعاط السياسة في الفترة الاخيرة فهل هو قادر على معالجة الوضع؟ أجبته: بيار حلو هاجر من لبنان عندما لم يعد له مكان. كان اصدقاؤه الامام موسى الصدر الذي حلّ مكانه نبيه بري وكمال جنبلاط الذي حل مكانه وليد جنبلاط والأمير مجيد ارسلان الذي حل مكانه الاميران فيصل وطلال. نظر حوله فلم يجد له مكاناً فسافر الى السعودية. قال: يا جورج، بيار حلو وشفيق بدر هما النائبان المارونيان الوحيدان اللذان لم يزورا سورية حتى للصيد فكيف تريدني ان اسوّق؟ كنا نتحدث عندما دخل الاستاذ محسن دلول. سأله ابو جمال من تقترح فأجاب: بيار حلو. فقال له هل انت متفق مع جورج؟ فأجاب: لم أره قبل وصولي. وشرح دلول لماذا يقترح الاسم. في هذا الوقت اتصل ابو جمال بالرئيس الأسد وأخبره ان الرئيس الحسيني قادم. ولدى وصول الحسيني سأله ابو جمال من تقترح فأجاب: بيار حلو. قال: “العمى متفقين كلكم”! ذهب ابو جمال والحسيني للقاء الرئيس الأسد وانتظرت مع دلول النتيجة.
بيار حلو يعتذر
اقترحنا في الواقع اولويات تبدأ ببيار حلو ثم ينتقل البحث الى جان عبيد او الياس الهراوي. عبيد من خارج المجلس النيابي والهراوي من داخله. خرج الحسيني من اجتماعه مع الرئيس الأسد باتفاق على هذه الاولويات وكلفت انا الاتصال بعبيد الذي كان في باريس للحضور فوراً الى دمشق. وعاد الحسيني ودلول الى لبنان للاتصال ببيار حلو. بذلت محاولات عدة لاقناع حلو فلم يقتنع وشارك فيها من الحزب كريم مروة وسعدالله مزرعاني. قابلت بيار حلو في آخر النهار وبذل الرئيس الحسيني محاولة اخيرة.
وهنا نكتة ظريفة: كانت حجة حلو ان رئيس الجمهورية الجديد يجب ان يكون شرساً، وهو وصل الى حد استخدام كلمة “ازعر”، لأن عون لن يخرج من قصر بعبدا الا بقوة السلاح ولا سلاح عندنا يخرجه من دون الاستعانة بالجيش السوري. يجب ان نأتي برئيس للجمهورية يطلب من الجيش السوري ان يقتحم قصر الرئاسة لاخراج عون. انا لا استطيع ان اقوم بذلك ومن دونه لا حل في لبنان. انا اولاً بيتي في بعبدا ثم انني لست دموياً. انا لم اقتل عصفوراً في حياتي. قال حلو هذه الجملة للرئيس الحص فابتسم الاخير وقال: انت لم تقتل عصفوراً اما انا فنباتي لم آكل عصفوراً في حياتي. فقال حلو: وجدت من هو … مني.
بينما كنا نتابع موضوع بيار حلو كان جان عبيد زار البطريرك الماروني نصرالله صفير ثم زار ابو جمال واتضح ان الوضع يستلزم شخصاً من داخل مجلس النواب.
وجاء الهراوي
هذا يعني ان عبيد كاد أن يصبح رئيساً للجمهورية؟
– نعم كان مطروحاً جدياً. في هذا الوقت كان الصديق النائب خليل الهراوي يأخذ عمه الياس الهراوي الى دمشق. وخليل موثوق به في دمشق وصديق للمسؤولين هناك، واتُفق على البرنامج الرئاسي لمواجهة مهمات المرحلة.
من التقى الهراوي في دمشق؟
– الرئيس الأسد وأبو جمال وأُبلغ ان الخيار هو بيار حلو وان تعذر فأنت أو جان عبيد. عندما فشلت محاولات اقناع حلو اعتمد خيار الرئيس الهراوي.
وهل كانت هناك صداقة بينك وبين الرئيس الياس الهراوي؟
– تربطنا به عداوة عندما كان جزءاً من زحلة الاخرى التي كنا نحاصرها كقوى وطنية في أيام حرب السنتين ثم علاقة تقوم على الاحترام. فالرئيس الهراوي همشري وحبّاب وصديق للكل. كنت بين اول من التقوه بعد انتخابه في “شتورة بارك اوتيل” وتحدثنا عن الوضع والمهمات وطرق مواجهة عون وإعادة الشرعية. وكان الجو ايجابياً.
في هذا السياق يمكن القول ان الرئيس الياس الهراوي تحمّل دوراً كبيراً يجب ان يقر اللبنانيون له به مهما اختلفوا معه في الرأي على هذه القضية او تلك. لقد واجه صعوبات كبيرة وتحمل مسؤولية اتخاذ قرارات كبيرة، بما في ذلك قرار بسط سيطرة السلطة الشرعية وإنهاء ظاهرة عون في 13 تشرين الأول اكتوبر 1990. طبعاً كان ينبغي ان يساهم الرئيس الهراوي في اطلاق حوار لبناني – لبناني وتشجيع مؤتمر لبناني للمصالحة الوطنية والافادة من موقعه على رأس السلطة. فهذا المركز المعنوي الكبير، على رغم تعديلات الطائف، يسمح له بأن يكون أباً لكل اللبنانيين، اي داعية حوار بين كل اللبنانيين. وهذا ما لم يحصل ويا للأسف، الامر الذي جعل السلطة عموماً والموقع المسيحي في السلطة خصوصاً في حالة فراغ تملأه حتى اليوم تيارات واتجاهات معارضة بعضها سلبي وبعضها لا يستفاد من ايجابياته.